Ads 468x60px

الأحد، 1 ديسمبر 2013

محمد مفتاح وتحليل الخطاب الشعري والاستيحاء من اللسانيات بتياراتها: التداولية، السيميائية، الشعرية


محمد مفتاح ناقد مغربي حداثي، طلع في ميدان النقد في مطلع الثمانينات بكتابه (في سيمياء الشعر القديم) 1982، ثم أصدر كتابه الثاني (تحليل الخطاب الشعري) عام 1985، ثم تتابعت كتبه: (دينامية النص) عام 1987، و (مجهول البيان) عام 1990، و (التّلقّي والتأويل) 1994، و (التشابه والاختلاف) 1996، و (الخطاب الصوفي) 1996...
في كتابه (تحليل الخطاب الشعري) الذي جعله الباحث قسمين: تنظيري وتطبيقي، جمع أكثر من منهج واحد، فقد استوحى من اللسانيات بتياراتها العديدة، (التداولية، والسيميائية، والشعرية)، ومن السيمياء باتجاهاتها المتنوعة، ومن البلاغة (الإبدالية، والتفاعلية، والعلاقية، والغشتالية، والمقوّمات)... والباحث يعترف بهذا الجمع، ويسوّغه بقوله:
"حينما نوينا الاستيحاء من اللسانيات والسيميائيات ترددنا بين أمرين ممكنين: العكوف على ما كتبته مدرسة واحدة لفهم مبادئها العامة والخاصة ثم تطبيقها على الخطاب الشعري. ولكننا رفضنا هذا الخيار لأسباب موضوعية من حيث أن أية مدرسة لم تتفق إلى الآن في صياغة نظرية شاملة، وإنما كل ما نجده هو بعض المبادئ الجزئية والنسبية التي إذا أضاءت جوانب بقيت أخرى مظلمة. وقد أدّى بنا هذا الشعور بقصور النظرة الأحادية إلى اختيار الأمر الثاني وهو التعدد، رغم ما يتضمنه من مشاق ومزالق" (ص7). 
وهذا الاعتذار عن جمع أكثر من منهج نقدي واحد ليس له ما يسوّغه سوى ضعف الإحاطة بمفاهيم المنهج الواحد ومقولاته، وحب "التوفيق" بين أكثر من منهج (إذا لم نقل التلفيق). ذلك أن الباحث استوحى النظريات اللسانية من ثلاثة مصادر هي:
1ـ التيار الشعري: من (ياكوبسون) الذي أسهم في تأسيس النظرية الشعرية الحديثة، ومن (جان كوهين) الذي انطلق من مسلّمة أن الشعر يقوم على (المجاز) الذي هو خرق العادة اللغوية أو الانزياح، وعلى الاستعارة. ومن جولينو، وج. تامين.
2ـ التيار التداولي لدى (موريس) وفلاسفة أكسفورد (أوستن، وسورل، وكرايس) ممن تبنّوا النزعة الاختزالية والوضعية ومبدأ شفرة (أوكام) Occam في تقسيمه الثنائي: الخيالي/ وغير الخيالي، والمعنى الحرفي/ والمعنى اللامباشر...
3ـ التيار السيميائي لدى أبرز ممثليه (غريماس) الذي استقى نظريته من مصادر معرفية عديدة: لسانيات بنيوية، وتوليدية، ومنطقية، وأبحاث أنثربولوجية. ثم وُضعت كتب من مثل: (محاولات في السيميولوجيا الشعرية) و (بلاغة الشعر) 1977 لجماعة (M) التي استقت من الغشتالية، والأنثربولوجيا، والتحليل النفسي، والسيميولوجيا، واللسانيات، وقاربت الخطاب الشعري بعمق وخصب. وكتاب (سيميوطيقا الشعر) لريفاتير الذي رأى أن التحليل السيميائي للشعر هو أخصب من التحليل اللساني.
وما يجمع بين هذه المحاولات السيميائية جميعاً هو القواسم المشتركة التالية:
آ ـ النص الشعري لعب لغوي.
ب ـ النص الشعري مغلق على نفسه، ولا يُحيل إلى واقع خارجه.
ت ـ جدلية النص والقراءة، وتعدّد قراءات النص الواحد.
ثم انتقل الباحث إلى (عناصر تحليل الخطاب الشعري) فجعلها عنصرين هما: (التشاكل) و (التباين). وكان غريماس هو أول من نقل مفهوم (التشاكل) من ميدان الفيزياء إلى ميدان اللسانيات، فاحتل هذا المفهوم مركزاً أساسياً في التحليل السيميائي. و (التشاكل) عند غريماس يعني "مجموعة متراكمة من المقولات المعنوية التي تجعل قراءة متشاكلة للحكاية، كما نتجت عن قراءات جزئية للأقوال بعد حلّ إبهامها" بينما هو عند براستي "كل تكرار لوحدة لغوية مهما كانت". وبما أن (التشاكل) لا يحصل إلا من تعدد الوحدات اللغوية، فمعنى هذا أنه ينتج عن (التباين)، وإذن فإنه لا يمكن الفصل بين (التشاكل) و (التباين).
وقد يكون (التشاكل) في التعبير، وفي المعنى: (فتشاكل التعبير) يكون في الصوت (حرف العين، والهمزة), وفي النبر، والكلمة المكررة، والجناس، والتركيب النحوي. وأما (تشاكل المعنى) فيتوضح بتحليله، كما في مثل (الدهر يفجع):
أ ـ الدهر: اسم + مجرد + دال على زمان غير محدد + دال على الضرر.
ب ـ يفجع: فعل + محمول إلى فاعل حي أو مجرد + دال على ضرر.
أما تعبير (التشاكل الصوتي) فيمكن تبيّن تيارين عملا به: تيار يقول بالقيمة التعبيرية للصوت (ابن جني في كتابه الخصائص)، وتيار يقول بخلاف ذلك (ويمثله السيد البطليوسي في كتابه: الاقتضاب).
وأما (تشاكل الكلمة) فيكون في (الجناس) وهو اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين، وأما (تشاكل المعجم) فقد احتل (الفعل) فيه أهمية وظيفية. والدلالية ترى في المعجم قائمة من الكلمات المنعزلة التي تتردد في النص الأدبي بنسب مختلفة، لتكوّن حقلاً دلالياً. ومن هنا فإن لكل خطاب معجمه الخاص: فللشعر الصوفي معجمه، وللشعر الخمري معجمه، وللشعر الغزلي معجمه، وهكذا...
وأما (تشاكل التركيب) فيشمل نوعين من التركيب: التركيب النحوي، والتركيب البلاغي. فالتركيب النحوي تبدأ فيه الجملة العربية بالفعل، مثل: (جاء محمد) فإذا قلنا: (محمد جاء) وقع التركيز على محمد دون سواه من الأسماء التي تتبادر إلى ذهن المخاطب. وهذا يعني أن تشويش الرتبة له نتائج معنوية تداولية. من هنا اهتمام البلاغيين العرب بالتقديم والتأخير، واهتمام الدراسات اللغوية المحدثة باستخلاص قوانين مجردة شمولية، ووضع مفاهيم إجرائية من مثل: البؤرة، والتعليق. فـ (محمد جاء): محمد (بؤرة)، وجاء (تعليق).
وإذا كان (التباين) يُظهر صراع الأطراف كما في: الحضور/ والغياب، والنفي/ والإثبات... فإن (التشاكل) يُقصد به تراكم مستوى معين من مستويات الخطاب هو (المستوى التركيبي). وقد سمّاه البلاغيون العرب (المعادلة)، وقسّموه إلى (ترصيع) و (موازنة). وقد يكون (التشاكل) كلياً، وقد يكون جزئياً، وينعكس ذلك في الاشتراك بالحرف الأخير كما في (العهن والمهل) و (هلوع وجزوع)، وكل زيادة في المبنى هي زيادة في المعنى...
وأما (التركيب البلاغي) فيتجلّى في الاستعارة، والكناية، والمجاز. أما (الاستعارة) فقد شغلت الدارسين منذ أحقاب، وعالجها الباحث على ضوء التيار الألسني البنيوي الذي كان من أهم ممثليه: ياكوبسون، وتامين، ومولينو، وتامبا... والتيار الألسني الغشتالي الذي من ممثليه: جونسون، وبالمر، ولاكوف... وقد عرض الباحث أبرز نظريات الاستعارة، وهي:
1ـ النظرية الإبدالية (أو التشبيهية) وتنص على أن الاستعارة لا تتعلق إلا بكلمة معجمية واحدة. وأن كل كلمة يمكن أن يكون لها معنيان: حقيقي، ومجازي، وأن الاستعارة تحصل باستبدال كلمة حقيقية بكلمة مجازية، وأن هذا الاستبدال مبني على علاقة المشابهة الحقيقية أو الوهمية. ففي مثل: (رأيت أسداً) و (عاشرت بحراً) فإن لكلمتي 
(أسد، وبحر) معنيين: حقيقي مستغنى عنه، ومجازي وهو 
المطلوب.
2ـ النظرية التفاعلية (أو التوترية) وترتكز على أن الاستعارة توجد في أكثر من كلمة واحدة، وأن الكلمة أو الجملة ليس لها معنى حقيقي محدّد، وإنما السياق هو الذي يعطيها معناها، وأن الاستعارة لا تحصل في الاستبدال وإنما تحصل من التفاعل بين بؤرة المجاز والإطار المحيط بها، وأن المشابهة ليست العلاقة الوحيدة في الاستعارة، فقد يكون هناك علاقات أخرى. وقد استخدم البلاغيون العرب مفاهيم إجرائية تقرّبهم من النظرية التفاعلية الحديثة، من مثل: القرينة، والترشيح، والتجريد، والتعلق، والادعاء. فالسكّاكي ينطلق من مفهوم (الادعاء) ليؤول على ضوئه الاستعارة المكنية.
ـ نظرية التحليل بالمقوّمات: وقد تبنتها البنيوية التي يمثلها هلمسليف، وياكوبسون، وغريماس، وغيرهم ممن استقوا منهجيتهم من دراسة علم وظائف الأصوات، ومن المسلّمة القائلة بثنائية ظواهر الطبيعة، حيث تنقسم كل ظاهرة إلى:
مجرد
محسوس


حي
غير حي

إنسان
حيوان
طبيعي
اصطناعي








مذكر
مؤنث
مذكر
مؤنث


وقد حلل بعض الباحثين كثيراً من الحقول الدلالية على ضوء هذه المتقابلات، وأسهم تحليلهم في حلّ كثير من مشكلات الظواهر اللغوية من مثل: الألفاظ المشتركة، والمترادفة، والمتضادة، والحقول الدلالية، والمعاني الأُول، والمعنى العرضي، والاستعارة.. ففي مثل (رجل شجاع):
ـ رجل: حي + إنسان + ذكر + بالغ...
وهذه المقومات ملاصقة لـ (رجل)، ولكن هناك مقوّماً عارضاً مضافاً إليها هو (شجاع). وبما أنه ليس ملاصقاً فقد دُعي (مقوماً عرضياً)، لأنه صدر سجِيّة. والدراسة المعاصرة للاستعارة تقوم على هذا التحليل: إذ تعمد إلى التركيب فتحلله إلى مقوماته، ثم تنظر في مدى توافقها واختلافها. وكلما كثر التوافق صارت الاستعارة أقرب إلى الحقيقة، وكلما كثر الاختلاف صارت هناك مسافة توتر وتباين.
4ـ النظرية العلاقية (أو التركيبية)، وهي تيار غربي بلاغي معاصر، انتقد أصحابه البلاغيين الذين اهتموا بمعنى الاستعارة دون تركيبها، ويمثلهم (بروك روس) Brooke Rose الذي نظم كتابه بحسب انتماء الاستعارة إلى أقسام الخطاب المختلفة: الفعل، والوصف، والظرف، والاسم، والنداء.. وقد سمّى البلاغيون العرب نوعاً من الاستعارة باسم (الاستعارة التبعية) وهي التي يكون فيها المستعار فعلاً كما في (عضّنا الدهر بنابه)، أو اسماً (نطقت الحال)، أو حرفاً (علي بنعمة)، أو يا النداء (يا رجل أقبل)، أو الإضافة (وعرّي أفراس الصبا)، أو الجملة الحالية (كالحادي وليس له بعير).
5ـ النظرية الغشتالية: عند لاكوف، وجونسون، وبالمر. أما لا كوف Lakoff  وجونسون Mark Johnson فقد انتقدا النظرية الوضعية للاستعارة في كتابهما المشترك (الاستعارات التي نحيا بها) عام 1980 لأنها تنكر وجود أنواع من الاستعارة بدعوى أنها ميتة، وتتخذ (الغرابة) مقياساً، فإذا لم تحصل الغرابة في التركيب فليس من استعارة. ويضع المؤلفان (الاستعارة الاتفاقية) بديلاً، وهي ثلاثة أنواع:
أ ـ استعارة موجهة مكانياً: (المحاضرة ذات مستوى رفيع/ منحط)، و (الطالب متفوق/ منخذل).
ب ـ استعارة تشخيص المعاني المجردة: (نسير نحو السلام)، و (لا نحتمل ويلات الحرب).
ت ـ استعارة بنيوية/ معجمية: (النظرية بناء).
وأما النظرية الغشتالية عند الألماني توماس بالمر T. Ballmer الذي وضع بحثاً بعنوان (الجذور المعرفية للنماذج العليا والرموز والاستعارة والنماذج والنظريات) عام 1982 انتقد فيه مناهج اللسانيات، فوضع الاستعارة في مركز وسط بين المعرفة الخفية والمعرفة العلمية، منطلقاً من شرط قاعدي للاستعارة هو مبدأ (الانسجام) الذي يتيح للمرء أن يوجه نفسه بنجاح في هذا العالم الذي يحتوي على كثير من مظاهر الانسجام، مما يسمح بالتعبير عن شيء بمفاهيم شيء آخر. فطبيعة الاستعارة تسمح بتجاوز المعاني المعجمية الاتفاقية، ونقل مظاهرها إلى ميادين تطبيقية...
وأما (الكناية) فهي ترك التصريح بذكر الشيء إلى ذكر ما يلزمه، لينتقل من المذكور إلى المتروك، ولها معنيان: حرفي، وغير مباشر. ففي (طويل النجاد) كناية عن شجاعة الرجل، وفي (نؤوم الضحى) كناية عن المرأة المخدومة. وأما (المجاز المرسل) فهو خرق للعادة التعبيرية، كما في (رعينا الغيث) فالغيث لا يُرعى، وإنما النبات الذي تسبّب الغيث في إنباته، و (أعصر خمراً) والمقصود أعصر عنباً...
ثم ينتقل الباحث إلى تعريف المدرسة (الألسنية التداولية) التي تناولت مظاهر لغوية عديدة بوجهات نظر متنوعة، من أهمها: تيار موريس، وتيار أكسفورد، وتيار التوليديين، وتيار السرديين.. (فتيار موريس) يقصد باللغة علم علاقات الأدلة بمتداوليها. وقد صنّف علاقات اللغة في معيّنات (هي الضمائر، وأسماء الإشارة، وأل التعريف)، وفي الزمان النحوي (الماضي والمضارع والأمر)، وفي المكان (ظروف المكان)، وفي الألفاظ العاطفية والقيمية (سواء كانت صفات أم أسماء أم أفعالاً...).
وأما (تيار أكسفورد) لدى أوستن، وسورل Searle، وكرايس... فقد اهتم بدراسة الأفعال الكلامية، وهو يعتمد فرضية مؤداها أن الكلام يُقصد به تبادل المعلومات، مع القيام بفعل محكوم بقواعد مضبوطة في نفس الوقت. وهذا الفعل يهدف إلى تحويل وضع المتلقي وتغيير نظام معتقداته ومواقفه السلوكية. ولكن هذا التيار اهتم بتحليل اللغة العادية، لا الأدبية التي يراها مشوّشة وغير عادية، باستثناء سورل الذي تناول اللغة الشعرية في كتبه: (الأفعال الكلامية) 1982، و (التعبير والمعنى) 1983، و (المقصدية) 1972 حيث ميّز بين اللغة العادية واللغة الأدبية في الرواية والمسرح...
وأما (تيار التوليديين) فقد اهتم بالتفاعل بين النص والسياق. ويمثّله أوهمان في كتابه (الأدب كفعل)، وفان ديك Van Djck في بحثه (السياق التداولي). و (النص) في هذا التيار هو سلسلة من الأفعال الكلامية، يُلقي كل منها ضوءاً على الآخر...
وأما (تيار السرديين) فيتجلّى لدى ياكوبسون، وغريماس، وجيرار جينيت... فغريماس يعتبر السردية مبدأ منظماً لكل خطاب، وهي تتكوّن من بنيات هي المكونات الأساسية على المستوى العميق للعملية السيميائية. وتتمثل الصيغ الأساسية لديه في: المعينات (كظروف الزمان والمكان، والضمائر، وأسماء الإشارة...) والموجهات (جهة الضرورة والإمكان، وجهة المعرفة، وجهة الفعل، وجهة الكينونة والظهور) والثنائية التي اعتبرتها البنيوية من خصائص الفكر الإنساني، واتخذتها كتقابلات أبستيمولوجية مثل: اللغة/ والكلام، والدال/ والمدلول... ومن أهم الذين استفادوا من الثنائية في دراسة المعنى غريماس الذي صنّف التقابلات في عدة أنواع: محورية (زوج/ زوجة)، ومراتبية (كبير/ صغير)، ومتناقضة (متزوج/ أعزب)، ومتضادة (صعد/ نزل)، وتبادلية (اشترى/ باع)...
في (المقصدية) لا يفصّل الباحث كثيراً، لأنه يراها المعنى (العمودي)، بينما يرى أن كل ما مر هو معنى (أفقي)، وأنه صلب التحليل الألسني:
أفقي


أصوات+ معجم+ تركيب +تداول


المقصدية


عمودي
وفي القسم الثاني من الكتاب تحدّث الباحث عن (استراتيجة التّناصّ)، فاستبعد عنه (الأدب المقارن)، و (المثاقفة)، و (دراسة المصادر)، و (السرقات الشعرية)، على الرغم من أنها تدخل كلها في باب (التّناصّ). ثم عرّف التناص الذي تعدّدت تعريفاته عند باحثين كثيرين من مثل جوليا كريستيفا، وآرّفي، ولورانت، وريفاتير... على أن (التّناصّ فسيفساء من نصوص أخرى أُدمجت فيه بتقنيات مختلفة). وعلى أن الأديب ليس إلا معيداً لإنتاج سابق في حدود من الحرية، سواء كان ذلك الإنتاج له أو لغيره. ومن هنا يصبح من المبتذل القول إن الأديب يمتص آثاره السابقة أو آثار غيره. ولذلك فإن الدراسة العملية تقتضي تدقيقاً تاريخياً لمعرفة سابق النصوص من لاحقها، كما تقتضي الموازنة بينها لرصد سيرورتها. فالتناص ـ بإذن ـ بمثابة الماء والهواء والزمان والمكان للإنسان، لا حياة من دونه. وكما يكون (التناص) في المضمون، فإنه يكون في الشكل أيضاً.
ومن الغريب أن الباحث يرفض إدخال المؤثرات، والمصادر، والسرقات الشعرية، في باب (التناص) في مطلع بحثه، ثم يعود فيدخلها بعد ذلك، معترفاً بأن أثراً أدبياً ما لا يتولد إلا من غيره، وأن إعادة نماذج أدبية معينة تتواتر وتتكرر لارتباطها بالسلف وبالسنن..
ثم يُتبع الباحث تنظيره بتطبيق عملي، فيدرس قصيدة ابن عبدون في رثاء الأندلس، التي مطلعها:
الدهر يفجعُ بعد العين بالأثر

فما البكاءُ على الأشباحِ والصورِ؟!
وقد بدأ تحليله بتطبيق مبدأ (التشاكل والتباين) في الشعر؛ فبدأ بتحليل الأصوات، حيث أعاد منها ما هو لحيّز الحلق (أ، هـ، ع، ح) في البيت الأول، وأظهر دلالتها على الحزن والزجر (اوّه، لتحزن...)... فإذا تجاوزنا (علاقة الصوت بالمعنى) إلى (المعجم) وجدنا الشاعر يستقي من مدوّنة الفرض، وقد تحكم في حضور كلماته مبدأ (التداعي) بالمقارنة: (فالعين) استدعت (الأثر)، و (الأشباح) استدعت (الصور). وقد قامت الذاكرة بدور أساسي في هذا التجميع لكلمات معروفة ذهنياً لدى المتلقي، ولذلك جاءت مصحوبة بـ (أل) التعريف.
وبما أن الرتبة الطبيعية في اللغة العربية هي (الفعل + الفاعل + المفعول به) و (المبتدأ + الخبر)، و (الموصوف+ الصفة)، فإذا وقع غير هذا الترتيب فإن هناك تشويشاً في الرتبة يحتاج إلى تعليل. ولهذا فإن تركيب (الدهر يفجع) جاء على غير الأصل، لأن هدف الشاعر من تقديم الدهر هو أن يجعله موضوعاً متحدثاً عنه، وما يتلوه تعليق عليه. كما أن الأصل في الاستفهام هو طلب العلم، ولكن الشاعر لا يقصد ذلك، وإنما يريد التوبيخ والتقريع. وهكذا فإن الجملة الخبرية (الدهر يفجع) والجملة الإنشائية (فما البكاء) قد أحدثتا توتراً تركيبياً في البيت، يعكس صراعاً بين الشاعر/ والمتلقي، وبين الدهر/ والإنسان.
وهكذا فإن هناك خرقاً على مستوى التركيب في تشويش الرتبة، وفي الاستفهام المجازي الذي يعني النهي (لا تبك)، وفي الإسناد المجازي (الدهر يفجع). وأسباب هذا الحزن تُلتمس في الآليات النفسية والاجتماعية التي تتحكم بالشاعر: فذاكرته وتجربته الثقافية، والتقاليد الفنية، ونوع المتلقي، حدّت من حريته، وجعلته يتحرك ضمن معالم معروفة...
ويتابع الباحث تحليل الأبيات بيتاً بيتاً، بنفس الطريقة، عبر ثلاث بنيات هي: (بنية التوتر) في المطلع وهي ذاتية غنائية، و (بنية الرجاء) في الوسط وهي ملحمية، و (بنية الاستسلام) في النهاية وهي مأساوية.
ومن الواضح أن السمة الغالبة على "منهج" مفتاح هي "التوفيقية" بين ثلاثة مناهج على الأقل، وأنه غالباً ما يخرج على مقولاتها ليعود إلى التراث البلاغي العربي، فيشبعه وخزاً واستنباطاً، ثم يميل إلى التقعيد المنطقي والفلسفي. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق