Ads 468x60px

الأربعاء، 15 ديسمبر 2010

في الأدب المقارن



ـ 1ـ
الأدب المقارن Littérature Comparée مصطلح ناقص وضروري معاً، فهو ناقص، لأنّ كلمة «أدب» تعني الإبداع والخلق، ويراد من الأدب المقارن لونٌ من الدراسات الأدبية، ولذلك فإنّ الأقرب إلى التسمية «دراسات الأدب المقارن» أو «الآداب الحديثة المقارنة»، أو «تاريخ الآداب المقارن»...الخ(1)، وهو ضروري، لأنّه أكثر اختصاراً وشهرةً من المصطلحات المقترحة التي لم تستطع زحزحة هذا المصطلح هنا أو هناك في بلدان العالم.
والأدب المقارن علم فرنسي في جزئه الأكبر كما يذهب إلى ذلك بول فان تيغم(2)، والمقارنة تعني تقريب الأحداث المقتبسة من جماعات مختلفة وبعيدة غالباً، لتستخرج منها قواعد عامة(3)، و «هو تاريخ العلاقات الدولية. وعلى الباحث المقارني أن يتوقف عند الحدود اللغوية أو الوطنية، وأن يراقب تبادل الموضوعات، والأفكار، والكتب أو الإحساسات بين أدبين أو أكثر»(4).
تبيّن تعريفات الأدب المقارن في المدرسة الفرنسية، وبخاصة ذات الاتجاه التاريخي التي تكاد تكون تعريفاً واحداً، أنّ الدراسة المقارنة ترتكز على المنهج التاريخي في البحث، ويُلحق أعلامُها الأدب المقارن بالتاريخ الأدبي، فهو فرع من فروعه الكثيرة، فالمعرفة التاريخية شرط من شروط المقارنة، ولذلك أولى هؤلاء تاريخ الأدب المقارن أهمية فوق أهمية النقد الأدبي المقارن والدلالات الجمالية، وهذا ما ذهب إليه فان تيغم صراحة: ومجمل القول، إنّ لفظة «المقارنة» يجب أن تُعرّى من كلّ معنى جمالي، وأن تأخذ معنىً تاريخيّاً فقط، وأنّ الوقوف على أوجه الشبه والخلافات من خلال كتابين اثنين أو أكثر أو من المشاهد والمواضيع، في لغات مختلفة، ليس سوى نقطة انطلاق ضرورية من شأنها أن تسمح باكتشاف بواعث التأثير وآثار الاقتباس.. الخ.. وبالتالي الشرح الجزئي لمؤلَّفٍ بمؤلَّف آخر»(5).
لا يخلو أيُّ تصوّر للأدب أو أيّ منهج من بعض الثغر، لأنّ المعرفة المطلقة أمر متعذّر، ثمّ إنّ أيّ معرفة مرتبطة بظروفها التاريخية والمكانية، ولذلك كان إهمالُ الجانب الجمالي في المدرسة الفرنسية وهي تصنع أسس الأدب المقارن ثغرةً عبر منها فيما بعد أعلامُ المدرسة الأمريكية، ثمّ مال إليهم الفرنسي «رينيه إيتامبل» (René Etiemble) في كتابه (Comparaison N est pas Raison) ، ثم تلاه الفرنسيان (Claude Pichois) و (André ـ  Michel Rousseau) في كتابهما المشترك (la littérature comparée)، ثمّ اشترك معهما (Pierre brunel) فأصدروا في سنة 1983 كتابهم  (Questــ ce que la littérature comperée)) وكان هذا الخروج سهلاً، ولا سيّما في الستينيات وما بعدها في إثر انتشار المدارس النقدية الجديدة في العالم، وتراجع المنهج التاريخي في دراسة الأدب في فرنسا نفسها، وقيام المناهج النصيّة والقرائية.
وتحتلّ المعرفة التاريخية ركناً هامّاً في دراسة التأثير (influence) ، فهي وسيلة لكشف الصلات الثنائية في الأدب، والتأثير هو الأساس الذي تُبنى عليه وظيفةُ هذا النوع من الدراسات الأدبية، وتشترط المدرسة الفرنسية المبادلات الأدبية بين أدبين من لغتين مختلفتين، ولذلك هي تلجأ إلى دراسة المصادر والوسطاء لمعرفة هذه الصلات.
يحدّد أعلام المدرسة الفرنسية في دراسة الأدب المقارن الأدب القومي على أسس لغوية، فاختلاف اللغة شرط في المقارنة، والحدود اللغوية هي المعترف عليها في قوانين الباحث، ولذلك لا يدخل في مجال المقارنة الانتماء السياسي أو الجنسي أو سوى ذلك، فالأدب الفرنسي هو كل ما هو مكتوب باللغة الفرنسية، سواء كان كاتبه فرنسيَّاً أم غير فرنسي، وكذا شأن اللغات الأخرى، ولذلك ليس للشعوب التي ليس لها لغة قومية أدب قومي، فهي تتحدّث بلغة مستعارة، كما هي الحالة في سويسرا التي تتحدث ثلاث لغات، ولذلك هناك أدب سويسري فرنسي، وأدب سويسري ألماني، وأدب سويسري إيطالي، ومع ذلك فإنّ القاعدة اللغوية في تحديد الأدب القومي تواجه عدداً من المشكلات، وذلك حين تمتدّ اللغة السائدة في بلد من البلدان إلى ما وراء الحدود السياسية، كأن يكون الأديب مزدوجَ اللغة، كما هي الحالة عند جبران خليل جبران فيما كتبه باللغة الإنكليزية، أو جورج شحادة فيما كتبه بالفرنسية، أو كأن تتكلّم أمّة لغة أمّة أخرى قريبة منها جغرافياً، كما هي الحالة عند الكتاب السويسريين والنمساويين، أو كأن تتكلّم أمّة لغة أمة أخرى بعيدة عنها جغرافيَّاً، كما هي الحالة في أدب الولايات الأمريكية المتحدة أو استراليا أو قسم من كندا يتكلّم الإنكليزية، وكما هي الحالة في أدب أمريكا اللاتينية الإسباني أو البرتغالي أو ما شابه ذلك(6).
يتوقّف دارس الأدب المقارن عند المصادر أوّلاً، وهي ما يؤثّر تأثيراً مباشراً في خيال الكاتب، كما هي الحالة في الأسفار والرحلات التي قام بها هذا الأديب أو ذاك إلى بلد من البلدان، والأمثلة على ذلك كثيرة، فمدام دي ستايل في ألمانيا، وفولتير في بريطانيا، ولامارتين في لبنان والشرق، وفلوبير في مصر، ورفاعة الطهطاوي في باريس، وأحمد فارس الشدياق في مالطة وأوروبة، وأحمد شوقي في الأندلس، ولكلٍّ من هؤلاء إنتاج أدبي هام يقوم على المشاهدة والوصف الدقيق، ولكنّه لا يخلو من الإحساسات والمواقف الشخصية والقومية، ومن المصادر أيضاً معرفة اللغات والآداب الأجنبية، وبخاصة إذا كان المصدر المشعّ يمتلك قوّة فاعلة، كما هي الحالة مثلاً في تأثيرات كتاب «ألف ليلة وليلة» في الأدب الفرنسي، وهذا ما اعترف به أحد دارسي الأدب المقارن إذ يقول: «إنّ المصدر الأدبي الشرقي الأوّل الفاعل حقّاً هو الترجمة التي قام بها أنطوان غالان لـ «ألف ليلة وليلة» (1704ـ 1717)، وقد أحدث هذا المؤلَّف تجديداً مذهلاً في المناخ النفسي والقصة الدينية والأسلوب الجديد»(7).
ويستطيع الباحث أن يلاحظ بكلّ سهولة تأثيرات الشاعر الفرنسي ألفريد دي موسيه بالشاعر خليل مطران، وبخاصة في موضوع البغي الفاضلة بين قصيدة Rolla لموسيه وقصيدة «الجنين الشهيد» لمطران، وثمة اعتراف شعري بمعرفة مطران لشعر موسيه وتأثره به، فقد أهدى مطران نسخةً من ديوان الشاعر الفرنسي لصبية حسناء مثقّفة، وكتب على الصحيفة الأولى موجز ترجمة الرجل بهذه الأبيات:

عاش هذا الفتَى مُحِبَّاً شَقيَّا


وقضَى نَحْبَهُ مُحِبَّاً شَقِيَّا

وَبَكَى دَمْعَ عَيْنَيْهِ في سُطُورٍ


جَعَلَتْهُ على المَدَى مَبْكِيَّا

مُنْشِدٌ لِلْغَرَامِ لم يَشْدُ إلاَّ


كانَ إنشادُهُ نُوَاحاً شَجيَّا

شَاعِرٌ كانَ عُمْرُهُ بَيْتَ تَشْبِيبٍ وكانَ الأنِينُ فيهِ الرَّوِيَّا

فَاقْرَئِي شَرْحَ حَالِهِ وَاعْجَبي مِنْ


ذَلِكَ القَلْبِ كيفَ باتَ خَلِيَّا

إنَّ في نَظْمِهِ لَحِسَّاً لَطِيفاً


بَاقياً مِنْهُ في السُّطُورِ خَفِيَّا

فَاذْرِفي دَمْعَةً عليهِ تُعِيدِي


وَرَقَ الطِّرْسِ بِالْحَيَاةِ نَدِيَّا

وَتُثِيري من رُوحِهِ نَسَمَاتٍ


وتُفِيحِي مِنْهَا عَبِيراً ذَكِيَّا(8)

كما يستطيع الباحث أن يتوقف عند اعتراف عباس محمود العقاد بتأثر جماعة الديوان بالأفكار الأوروبية بعامة، وبالنقد الرومانسي الإنكليزي بخاصة، فقال: «وأما الروح فالجيل الناشئ بعد شوقي كان وليد مدرسة لا شَبَهَ بينها وبين من سبقها في تاريخ الأدب العربي الحديث، فهي مدرسة أوغلت في القراءة الإنجليزية ولم تقصر قراءتها على أطراف من الأدب الفرنسي كما كان يغلب على أدباء الشرق الناشئين في أواخر القرن الغابر، وهي على إيغالها في قراءة الأدباء والشعراء الإنجليز لم تنسَ الألمان والطليان والروس والأسبان واليونان واللاتين الأقدمين، ولعلّها استفادت من النقد الإنجليزي فوق فائدتها من الشعر وفنون الكتابة الأخرى، ولا أُخطئ إذا قلت إنّ هازلت هو إمام هذه المدرسة كلّها في النقد، لأنّه هو الذي هداها إلى معاني الشعر والفنون وأغراض الكتابة ومواضع المقارنة والاستشهاد»(9).
ولا يعني ما تقدّم أنّ جماعة الديوان كانت تُعيد ما قاله أو أبدعه الغربيون، ولكنّه التأثر الإيجابي الذي يدفع المتأثر إلى الاهتداء فالإبداع ضمن مجال اللغة التي يكتب بها، وهذا ما يفسّره العقاد بقوله: «والواقع أنّ هذه المدرسة المصرية ليست مقلّدة للأدب الإنجليزي ولكنَّها مستفيدة منه مهتدية بضيائه، ولها بعد ذلك رأيها في كلِّ أديب من الإنجليز كما تقدِّره هي لا كما يقدّره أبناء بلده، وهذا هو المطلوب من الفائدة الأدبية التي تستحقّ اسم الفائدة»(10).
كما يقف دارس الأدب المقارن عند الوسطاء ثانياً، وهم يؤثّرون تأثيراً لا مباشراً في خيال الكاتب، فأدب الأسفار والرحلات مصدر بالنسبة لمن قام بهذه الرحلة (لامارتين دي ستايل ـ  الشدياق ـ  الطهطاوي... الخ)، وهو وسيط لقارئ هذه الرحلات فيما بعد من بني قومه، وقد يكون الوسيط فرداً أو جماعة أو مؤسّسة، فمدام دي ستايل وسيط لنشر الثقافة الألمانية باللغة الفرنسية، وفولتير أطلع الفرنسيين في «الرسائل الفلسفية» على إنكلترة، وهذا ما فعله الطهطاوي والشدياق وعلي مبارك، والوسيط الاجتماعي يتمثّل في عدد من التجليات، كالنوادي والصالونات الأدبية، والمؤسسات، كالمجلاَّت والصحف ودور النشر التي تؤدي دوراً هامّاً في هذا المجال، فقد نقلت «دار الآداب»، مثلاً، معظم الفكر الوجودي وأدبه من الفرنسية إلى العربية. أما الترجمة فهي تؤدي دور الوسيط الأكبر في هذا المجال، وبخاصة لمن لا يجيد اللغات التي كتبت بها الأعمال الهامة، وأثر الترجمة اليوم لا يُقاس بما مضى، فهي على قدم وساق من اللغات جميعها إلى اللغات بعامة، واللغة العربية بخاصة.
ويتوصل المرء أخيراً إلى أهمّ شرط من شروط المدرسة الفرنسية في المقارنة، وهو الاتصال والتأثير، وهذا يتوقّف على صلة تاريخية بين طرفين: مرسل ومتلقٍّ، وهما طرفان مختلفان لغةً بالضرورة، كما أنّ أحدهما سابق على الآخر، وهما متصلان، ومن هنا تكون الصلة سببية، فللأول فاعلية ما في وجود الآخر، أو هو على الأقل عامل في وجوده، وينبغي ألا تُفهم هذه الصلة، في المجال الإبداعي، بأنّها متطابقة كلّ التطابق مع علم الوراثة في الكائنات الحيّة من إنسان وحيوان ونبات، فالبذرة هنا تُنتج بذوراً متشابهة، ولكنّ الإنتاج في الأدب والإبداع غير ذلك لاختلاف طبيعة اللغات والمناخات والهويّات، فقد يقتصر عمل المؤثر في المتلقّي على تفجير مكامن الإبداع في النفس الإنسانية مع احتفاظها باستقلالها، فشيوع موضوع من الموضوعات في مرحلة من المراحل لا يأتي عفو الخاطر، وإنّما ينبغي أن تكون هناك صلات سببية أفضت إلى ذلك، فموضوع «البغي الفاضلة» في الأدب الفرنسي وانتقاله من لغة إلى أخرى يتطلّب من باحث الأدب المقارن أن يبحث في المصادر والمؤثرات سواء أكانت مباشرة أم لا مباشرة، وكذا شأن الأساليب والأجناس الأدبية والإحساسات والأفكار... الخ(11).
إنّ لدراسة التأثيرات والصلات السببية ضمن المعرفة التاريخية أهمية كبرى في منهج المدرسة الفرنسية التي تشترط المبادلات بين أدبين من لغتين مختلفتين، فإذا اتسع المجال خارج نطاقهما، ليشمل آداباً مختلفة ولغات أخرى، فإنَّ هذه المدرسة تُخرج هذا النوع من الدراسات من مجال الأدب المقارن إلى مجال الأدب العام littérature générale ، وهذا ما فعله بعض دارسي الأدب المقارن في العالم العربي، وفي مقدمتهم الدكتور محمد غنيمي هلال (1916ـ 1968) المتتلمذ على المدرسة الفرنسية(è) في كتابه الرائد «الأدب المقارن»(12).
وتزداد أهمية الاتصالات ودورها في عملية التأثير ـ رغم وجود معارضين لمقولة التأثيرات الأدبيةـ  في زمننا هذا، فقد تطوّرت وسائل الاتصال تطوّراً هائلاً، وقد ولّى إلى غير رجعة عصر العزلة الذي شهدته ألمانيا في عصر هتلر أو الاتحاد السوفياتي في عصر ستالين وجدانوف، وحلّ عصر التلفاز والأقنية الفضائية والحاسوب والأنترنت وسواها، وتغيّرت وسائل الاتصال ووسطاؤه، وتطوّرت الأساليب والتقانات، وصار الآخر يأتي إليك ويسكن معك في منزلك شئت أم أبيت، ولذلك نتناول مفهوم التأثير وصوره ومجالاته بصفته بحثاً مستقلاًّ قائماً بذاته.
ـ 2 ـ
يمكننا أن نتوقف هنا عند مجالات الاتصال والتأثيرات الأدبية، وأهمّها:
أـ دراسة الميثات الأدبية: إنّ انتقال الميثة من مكان إلى آخر كان سريعاً في الحياة القديمة عند الشعوب عبادةً أو غير ذلك، ويكفي أن نذكر هنا بأنّ الشعوب التي كانت تنتقل من مكان إلى آخر بسبب الحروب أو التجارة أو البحث عن مكان أكثر خصوبة أو أيّ سبب آخر كانت تحمل معها آلهتها وعقائدها لتحتفظ بها لنفسها أو لتنشرها بين الشعوب الأخرى، وقد تختلف أسماء هذه الميثات، ولكنّ مضموناتها وأحداثها تكاد تكون واحدة، وبخاصة في حوض البحر الأبيض المتوسط، ففي شخصية (آخيل) بطل الإلياذة صفات من شخصية (جلجامش) بطل الملحمة المسماة باسمه، وأهمّها أنّ هذه الشخصية وتلك تحتويان على عناصر إلهية وبشرية في آنٍ معاً، ولذلك هما محكومتان بالموت من خلال العنصر البشري، ولذلك كانت هذه الميثات ذاهبة آيبة في حركة نسيجية متداخلة، وقد عرف الأدب العربي الحديث تحوّلات سريعة مع الميثات المحلية (عشتارـ  تموزـ  بعل ـ  الفينيق...الخ) والوافدة (برومثيوس ـ  سيزيف ـ  بيغماليون ـ  أوديب... الخ)، ولذلك يستطيع دارس الأدب المقارن أن يتوقف، مثلاً، عند ميثة بروميثيوس أو سيزيف أو سبارتاكوس أو سواها من الميثات الإغريقية الكثيرة التي أصبحت مكوّناً من مكوّنات الشعر العربي المعاصر، وبخاصة في بعض قصائد السياب (سربروس في بابل ـ  المومس العمياء) والبياتي وأدونيس وأمل دنقل (كلمات سبارتاكوس الأخيرة)، وهي ميثات نشأت ونضجت في الفكر الإغريقي، ثمَّ انتقلت إلينا في العصر الحديث بوساطة عمليات المثاقفة، كما يستطيع دارس الأدب المقارن أن يتوقف عند بعض الميثات الإغريقية التي غدت مكوّناً من مكونات الجنس الروائي أو المسرحي، كما فعل توفيق الحكيم في مسرحيتيه «أوديب» و «بيجماليون»، والمهمّ أن يتبيّن الدارس ملامح صورة هذه الميثة أو تلك في مصادرها، ليتبيّن بعد ذلك التحوّلات التي طرأت عليها حين انتقلت من بيئتها إلى بيئة الأدب العربي شعره ونثره، لاختلاف طبيعة اللغتين أو البيئتين أو العصرين أو الأديبين، فإذا حاولنا أن نتبيّن ملامح بيغماليون وغالاتيا في الميثة الإغريقية، ثمّ نتأمل هذه الملامح في قصيدة «التمثال» لعلي محمود طه وجدنا بوناً شاسعاً بينهما، لأنّ الشاعر كان ذا اتجاه رومانسي قوّي هيمن على طبيعة قصيدته، فتغيّرت ملامح غالاتيا ونهاية القصيدة.. الخ، ومثل ذلك كثير في الشعر والنثر، مما يدعو الدارس إلى أن يرصد عملية التلقي الأدبي ويبيّن مجالات الإبداع والتأصيل أو المحاكاة والتقليد والتبعية حسب قدرة هذا الأديب أو ذاك على التفاعل مع الميثة الوافدة وتوظيفها وتأصيلها في النّص الجديد بعد هجرتها من حقلها المعرفي الأول. ودراسة الميثات قريبة من دراسة الموضوعات، أو هي منها.
ب ـ دراسة الموضوعات الأدبية (Thématologie): إنّ انتقال الموضوعات الأدبية بين لغتين لا يقلّ أهمية عن انتقال الميثات الأدبية، بل إنّ الميثات تُعَدّ جزءاً من هذه الموضوعات، وقد تُدرج ضمنها، وإن كانت الميثات تتمتّع بخصوصية قومية أحياناً، ويكون هذا الانتقال بوساطة الاتصالات مرّة أو نتيجة للتشابه، ولكنّ الانتقال بالاتصال هو ما يعنينا في مجالات التأثير في مدرسة الأدب المقارن الفرنسية.
وثمة خلاف أيضاً بين أقطاب مدرسة الأدب المقارن حول دراسة تاريخ الموضوعات في المدرسة الفرنسية نفسها، فيرى بعضهم، ومنهم روّاد المدرسة الفرنسية، كبلدنسبرجيه وبول هازار أنّ هذه الدراسة تُعنى بمادة الأدب أكثر من عنايتها بالأدب نفسه، ولكنّ بول فان تيغيم وغويار يريان أنّ هذه الدراسة تكشف أيضاً عن الصلات بين اللغات والأمم، فالموضوعات تنتقل من لغة إلى أخرى، وهي ذات بداية محدّدة، وبخاصة في الموضوعات التاريخية التي ترتبط بمكان وقع فيه الحدث، فقصة «عنترة»، مثلاً، عربية، ولكنّها انتقلت إلى الأدب الفرنسي سنة 1898م، وقد نظمها الشاعر اللبناني الأصل شكري غانم (1861ـ 1932م)، وهو أحد رجالات النهضة القومية وأحد دعاتها، وكان نائباً لرئيس مؤتمر باريس 1913، وهو في الوقت ذاته من كبار رجال الأدب في فرنسا، ولكن المسرحية لم تُنشر وتمثّل إلاّ في عام 1910، وقد قُدّمت على مسرح في باريس، ولاقت رواجاً كبيراً، وكان لها من بعد في المحافل الأدبية والفنيّة وقع كبير(13).
ويمكننا أن نتوقف، في مقابل ذلك، عند موضوع «كليوباترا» في الآداب الأوروبية ومسرحية أحمد شوقي التي تحمل العنوان ذاته، فالموضوع تاريخيّ، وقد تناوله الكتّاب والشعراء في مختلف الآداب الأوروبية، وله شهرة في العالم بعامة وفي مصر بخاصة لاتصاله بالتاريخ المصري، وقد تناوله شكسبير من حيث صلة كليوباترا بأنطونيو في مسرحيته «أنطونيو وكليوباترا» وله يرجع الفضل في إذاعة هذا الموضوع في الآداب الأوروبية، وقد أفرد الدكتور عبد الحكيم حسّان دراسة خاصة مستقلة بعنوان «أنطونيو وكليوباترا» لبيان الصلة بين شكسبير وشوقي في مسرحيته «مصرع كليوباترا»، فتوقف عند صلة المسرحية بالتاريخ، ثمّ توقّف عند مسرحية شكسبير واعتماده على عدد من المصادر التاريخية والأعمال الأدبية التي تناولت هذا الموضوع قبله، ليحلّل ـ بعد ذلك ـ  تصويره للشخصيات والشكل الدرامي في عمله، ثم ليبيّن اتصال أحمد شوقي بعمل شكسبير، وبخاصة أنَّه شاعر عالمي وأنَّ شوقيَّاً عاش فترة في أوروبة واطلع على أعمال شكسبير وسواه، ثمّ يتوقف ـ بعد ذلك ـ  عند مسرحية أحمد شوقي ومصادره في هذه المسرحية وتصويره لشخصياتها وموقفه منها مخالفةً أو اتفاقاً مع موقف شكسبير، وينتهي إلى الحديث عن الشكل الدرامي في هذه المسرحية(14)، ويعدّ منهج عبد الحكيم حسّان في هذه الدراسة من صميم مدرسة الأدب المقارن الفرنسية في مفهوم التأثير والمنهج التاريخي، وإن كان شوقي قد غيَّر طبيعة صورة كليوباترا على ما هي عليه في الآداب الأوروبية، لانطلاقه من بيئة ثقافية مختلفة، وكان يراعي أنّه يقدِّم هذه المسرحية إلى جمهور عربيّ من جهة، ولتقرّبه من البلاط الخديوي من جهة أخرى.
ج ــ  دراسة الأفكار: إنّ دراسة الأفكار أقرب إلى الفلسفة منها إلى الأدب، ومع ذلك فإنّ للأفكار سرعة الانتشار والتنقّل بين الفلسفة والأدب والحقول الأخرى، أو التنقّل من مكان إلى مكان وزمان إلى زمان، ويستطيع الدارس في الأدب المقارن أن يتوقف عند أثر جان جاك روسو في الفكر والأدب الأوروبيين، أو يتوقّف عند أثر الوجودية الفرنسية في الرواية العربية، وبخاصة أنّ لمجلة «الآداب» البيروتية ولصاحبها سهيل إدريس صاحب دار الآداب للنشر دوراً كبيراً في تعريف القارئ العربي بها.
ويمكن للدارس أن يتوقف عند الأفكار الدينية وصورها وتنقلاتها بين الشعوب والآداب، وهذا ما فعله الدكتور داود سلوم في الفصل الخامس من الباب الثاني إذ وقف عند أثر قصة المعراج والثقافة الشرقية في ملحمة دانتي، فوقف أولاً عند النزول إلى العالم الآخر في ملحمة جلجامش، ثم وقف عند الأثر الإسلامي العام الذي كان دليل دانتي إلى ذلك العالم، فضلاً عن أثر التصوف الإسلامي والأثر التاريخي(15)، كما يستطيع الدارس أن يتوقف عند الأفكار الفلسفية (ليبراليةـ  وجوديةـ  ماركسية.. الخ)، أو الأفكار الفنيّة (الكلاسيكيةـ  الرومانسيةـ  الرمزية... الخ).
د ـ الإحساسات والمواقف: هي مجال آخر من مجالات الاتصال الأدبي والتأثيرات في الأدب المقارن، صحيح أنّ الإحساسات البشرية متشابهة حسب الظروف التي تنتجها، كالحزن بعد وفاة عزيز، والفرح بعد عمل سعيد، والألم مع الأوجاع، ولكنّ الصحيح أيضاً أنّ حركة الإحساسات وتحوّلاتها تنتقل هي الأخرى، وتتحرّك ضمن التأثيرات، كأثر الإحساس بالإباء والشرف بين مسرحيتي «السيد» (1636م) لكورنيي و «مجنون ليلى» لشوقي، فالإحساس العظيم بالحبّ بين بطلي «السيد» يقابله إحساس عظيم بالحبّ بين بطلي «مجنون ليلى»، ولكنّ الموقف من الواجب والشرف هو الذي يقف عائقاً، في البداية على الأقل، من زواج البطلين في مسرحية كورنيي، لأنّ فريدريك قام بقتل والد خطيبته بعد أن أهان والده، فاتخذت موقفاً برفض الزواج منه بالرغم من حبّها العظيم له، وهذا ما فعلته ليلى إذ وقفت إلى جانب التقاليد والعادات ورفضت الزواج من قيس الذي تحبّه، واختارت ورداً الثقفي زوجاً، لأنّ قيساً تغزّل بها بين القبائل، وكانت العرب لا تزوّج بناتها ممن يُشَهِّر بهنّ(16)، ولا شكّ في أنّ شوقيَّاً قد ترسَّم في هذه المسرحية الشعرية مسرحية كورنيي المذكورة، وكان يسير على هديها في الإحساسات والمواقف.
هـ ـ النماذج البشرية: حقل غنيّ من حقول الاتصالات الأدبية، وبخاصة إذا كان ثمة ما يُثبت هذه الاتصالات، كما هي الحالة في أدبنا العربي الحديث المتصل بالأدب الفرنسي، كما في مسرحية «البخيل» لموليير، وهي مسرحية ذات شهرة عالمية، وقد كان لها السبق في المسرحية العربية الحديثة، فأوّل مسرحية عربية كانت «البخيل» 1847م لمارون النقاش الذي اقتبس مسرحية موليير، وحاول أن يقوم بعملية التأصيل، فأطلق على بطله اسماً عربيَّاً، هو «قراد» ليكون ندَّاً لهارباغون بطل مسرحية L' avare ، وغيّر المكان، وأعاد صياغة طبيعة الشخصيات خالعاً عليها سمات عربية، وقد وعى النقّاش طبيعة الفروق بين المجتمع الأوروبي الذي أنتج وتلقّى مسرحية موليير، والمجتمع العربي الذي لم يعرف المسرح من قبل، وقد تجلّى هذا الفهم في خطبته الشهيرة التي تلاها عند تقديمه المسرحية على الحضور في منزله في بيروت(17).
ونموذج المرأة الملاك أو البغي الفاضلة في الشعر الرومانسي العربي، مثال آخر على الاتصالات الأدبية بين الشعر الفرنسي والشعر العربي(18)، فقد بدأت صورة هذه المرأة تتجلّى في رواية ومسرحية «غادة الكاميليا» لإسكندر ديما الابن، ومسرحية «ماريون دي لورم» لفكتور هوغو، وقصيدة «رولا» لألفريد دي موسيه التي انتقلت إلى الشعر العربي الحديث، بدءاً من قصيدة «الجنين الشهيد» لمطران وقصيدتي «المرأة السّاقطة» و «إلى بغي» لنقولا رزق الله، وقصيدتي «بنت الرصيف» و «الريال الزائف» لطانيوس عبده إلى قصيدة «الريال المزيف» للأخطل الصغير، وقصائد جماعة أبولو، فيما بعد، في هذا الموضوع، ومنهم محمود حسن إسماعيل وصالح جودت، وفؤاد بليبل، إلى قصيدة «المومس العمياء» لبدر شاكر السياب.
ويستطيع دارس الأدب المقارن أن يتوقّف عند نماذج اجتماعية، كشخصية «الستّ هدى» لشوقي، أو شخصية «دون جوان» أو «كازانوفا»، وسواها من النماذج التي تنتجها المخيلة الأدبية في هذه اللغة أو تلك، كما يستطيع أن يتوقّف عند نماذج من الشخصيات الدينية، كشخصية الشيطان عند ملتون في «الفردوس المفقود» وبايرون ودي فيني والعقاد في «ترجمة شيطان»، وشخصيات أسطورية وتاريخية أو سواها.
وـ الأجناس الأدبية: هي قوالب فنيّة نظر إليها النقد القديم على أنّها ثابتة، وأقام بينها تخوماً في كتاب «فنّ الشعر» لأرسطو، فالملحمة غير التراجيديا، وهي غير الكوميديا والشعر الغنائي، ولذلك قسّم النقاد القدماء الشعر إلى ثلاثة أجناس: الشعر الملحمي ـ  الشعر الدرامي ـ  الشعر الغنائي، ولكنّ النقد المعاصر ذهب إلى الأجناسية (تداخل الأجناس الأدبية)، فهي تقبل التطوّر والنمو والتداخل والتفاعل والتوالد(19)، وقد كانت المسرحية شعراً إلى بدايات العصر الرومانسي، ثمّ بدأت تتحوّل إلى النثر، ثمّ تحوّلت الملحمة إلى رواية، وأصابها تحوّلات خطيرة وأحداثها وشخصياتها قبل أن تصبح رواية.
والاتصالات في الأجناس الأدبية عظيمة جدَّا،ً فقد انتقلت المسرحية شعريَّةً ونثرية إلى أدبنا في العصر الحديث، وكذا شأن القصة القصيرة والرواية(20)، ولم يخلُ أدبنا الحديث من محاولات ملحمية شعرية بدءاً بـ «إلياذة هوميروس» لسليمان البستاني إلى «الإلياذة الإسلامية» لأحمد محرّم، و «على بساط الريح»، لفوزي المعلوف، و «عبقر» لشفيق المعلوف، و «عيد الغدير» و «عيد الرياض» لبولس سلامة وسواها.
ولا يعني ما تقدَّم أنّ الصلات الأدبية كانت تسير دائماً باتجاه واحد من الغرب إلى الشرق، وإنّما كان للعرب فتوحات في الأدب الأوروبي من حيث الأجناس الأدبية، فقد كان لرحلة القصة والحكايات العربية أثر في القصة الغربية، وبخاصة ما يُطلق عليه مصطلح «البيكارسك»، فللمصادر العربية (كليلة ودمنةـ  ألف ليلة وليلةـ  المقامات... الخ) دور في نشأة هذا الجنس الأدبي في الغرب، وإن حاول سعيد علوش أن يأخذ على الدراسات العربية المقارنة بهذا الصدد بعض المآخذ المنهجية(21).
زـ المذاهب الأدبية: تتجلّى الصلات والتأثيرات الأدبية بين الغرب والشرق العربي في أبهى صورها في المذاهب الأدبية التي انتقلت إلى الأدب العربي في القرن العشرين، وقد نشأت هذه المذاهب تحت تأثير عاملين: أولهما حركة إحياء التراث العربي ونشر روائعه الأدبية والعودة إلى الأدب العربي القديم للتعبير عن استقلال الشخصية القومية من جهة، وإحياء الأدب العريق من جهة أخرى، وهذا ما تجلّى في معظم شعر البارودي(22)، وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأترابهم، فكانت الكلاسيكية والكلاسيكية الجديدة، وثانيهما التأثر بالآداب الغربية الحديثة في الرومانسية(23)، والرمزية(24)، والواقعية، والواقعية الجديدة، والسريالية، والوجودية، وسواها من المذاهب الأدبية المستحدثة، وقد تأثر الأدب العربي الحديث شعره ونثره بها، وغدت جزءاً لا يتجزّأ منه بعد محاولات التأصيل في الشعر والمسرحية والرواية والمقالة(25).
ح ـ التأثيرات الأسلوبية: هي تأثيرات جزئية، لكنّها كثيرة وواضحة في الشعر العربي المعاصر، كاقتباس صورة من قصيدة لشاعر غربي شهير، مثل صورة «الرعد العقيم» في أعمال ت. س. إليوت، أو «الأرض اليباب» أو «الرجال الجوف»، أو صورة الازدحام وحشود البشر التي تدور في حلقة فارغة وفقدان الصلات الإنسانية وأمثالها، وقد تجلّت هذه الصور الجديدة في الشعر العربي نتيجة للمثاقفة، وبخاصة في أعمال السياب وحاوي ويوسف الخال وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي ويوسف الصائغ ومحمود درويش وسواهم(26).
ط ـ التأثيرات النظمية: النظم عنصر من عناصر التعبير الشعري، وهو يقوم على الإيقاع، والإيقاع نسق من الأصوات المتكررة بشكلّ منغّم منظّم، سواءٌ أكان ذلك على صورة شعر الشطرين أم كان ذلك على صورة النظام المقطعي أم شعر التفعيلة أم سوى ذلك، ولكنّ المهمّ في ذلك كلّه أن التحوّلات التاريخية لإيقاعية النظم لم تنبثق دفعة واحدة، وإنّما كانت التحولات الإيقاعية متزامنة مع إيقاعات الحياة والعصر من جهة، ومتأثرة إلى حد بعيد بالاتصالات المختلفة بالغرب من جهة أخرى، وكان معظم المجدّدين من المطلعين على الهندسات النظمية في الغرب، فاستطاعوا أوّلاً أن يلغوا هيمنة القصيدة الطويلة ذات الشطرين والقافية الواحدة، وأن يستبدلوا بها الشعر المرسل أو النظام المقطعي الذي ساد في دواوين شعراء الرابطة القلمية، وأن يمهدوا بقوّة لولادة شعر التفعيلة فيما بعد؛ يقول أحد الدارسين: «ومن الأهميّة بمكان أن تعرف إلى أيّ مدى استغلّ الشعراء المهجريون الشكل المقطعي التقليدي الذي كان معروفاً في عصرهم، وطوّروه، وكيف أدّى ذلك إلى تعبيد الطريق أمام الشعر الحرّ في الأدب العربي الحديث. ويتعيّن علينا حينئذ أن ننعم النظر في أهمّ الدواوين التي أصدرها أفضل الشعراء المهجريين تمثيلاً لمدرسة المهجر الشمالي، الذين تركوا أثراً لا ينكر في الشعر العربي الحديث، وهم جبران، وأبو ماضي، ورشيد أيوب، ونعيمة، ونسيب عريضة»(27).
لم يكن النظام المقطعي مقتصراً على جماعة المهجر الشمالي، وإنما انطلق إلى المهجر الجنوبي ولبنان وجماعة الديوان وجماعة أبولو بشكل خاص، كما لم يكن هذا النظام وحيداً في هذه التفاعلات والتحوّلات الإيقاعية، وإنّما رافقه في ذلك الشعر المرسل والشعر المنثور والنثر الشعري والمزدوجات والرباعيات والخماسيات، وهذا مهّد لولادة شعر التفعيلة، فيما بعد، يقول هذا الدارس: «بيد أنّ الجانب الإيجابي الأساسي في هذه الجهود أنّها شجعت الشعراء الآخرين على القيام بتجارب جديدة، وقادت إلى استخدام عدد غير منتظم من التفعيلات في الأبيات، وهي الوسيلة التي استطاعت إنتاج موسيقا جديدة، وقد استغلّها وطوّرها فيما بعد شعراء آخرون»(28).
ولكنّ من المؤكّد أنَّ الفاعلية في ولادة شعر التفعيلة ونشأته لم تكن وحيدة المصدر والاتجاه، فالشعر من الفنون ذات التطوّر البطيء، وبخاصة إذا كان كالشعر العربي الذي يتمتع بالقدم والعراقة، ولذلك كانت المصادر الفاعلة في التغيير في منتصف القرن العشرين مختلفة، فـ «لشعراء المهجر ومدرسة أبولو والشعراء الرومانسيين والرمزيين في سورية ولبنان أثر كبير في جيل الشعراء الشبان في أواخر الأربعينيات، هذا بالإضافة إلى التأثير المباشر للشعر والنقد في أوربا وأمريكا على هؤلاء الشعراء»(29).
وهكذا كان الخروج على نظام الشطرين إلى النظام المقطعي إلى شعر التفعيلة نتيجة لعوامل كثيرة، أهمّها الابتعاد عن الحشو والتحرّر من سلطة القافية الموحّدة لإبراز تنوّع أنغام القصيدة وأبعادها ومستوياتها، والابتعاد عن الرتوب في موسيقا الشطرين، وملاءمة الموضوعات الدرامية والسردية ذات البناء المتصاعد الهرمي التي بدأت تتجه إليها القصيدة للارتفاع والانخفاض والحدّة والتراخي واستخدام الصورة استخداماً عضويّاً وظيفيَّاً، وإدخال الحوار في بنية القصيدة إلى آخر ما تقتضيه طبيعة بنية كلِّ قصيدة على حدة.

ـ 3ـ
يمكننا أن نقسّم صور التأثير بحسب نوعية الاتصال، وبحسب القدرة الإبداعية عند المتلقّي، وبحسب المرسِل، وبحسب اتجاه الموضوع.
أـ مفهوم التأثير بحسب نوعية الاتصال: نستطيع من خلال تقسيم صور التأثير بحسب نوعية الاتصال أن نجد التأثير المباشر والتأثير اللاّ مباشر، أو التأثير بالصوت والتأثير بالصدى في أدبنا العربي الحديث.
يتجلّى التأثير المباشر في الاتصال بالآداب الأخرى بلغاتها، وقد كان للدوريات دور فعّال في ذلك بدءاً من أواخر القرن التاسع عشر، كاتصال رفاعة الطهطاوي ونجيب الحداد وطانيوس عبده ونقولا رزق الله وغيرهم بالثقافة الفرنسية، واتصال جبران والريحاني والعقاد وعبد الرحمن شكري وأحمد زكي أبو شادي وسواهم بالثقافة الإنكليزية، وتتباين مدى استفادة هؤلاء وسواهم من الآداب الأخرى بقدر مواهبهم وتجاربهم وأصالتهم وسماتهم الشخصية من جهة، وتعلّقهم بتقاليدهم الثقافية من جهة أخرى.
ونضرب ثلاثة أمثلة على التأثير المباشر هنا، أولها الترجمة الشعرية، وقد تكون واضحة وصريحة، كما في ترجمات قصيدة «البحيرة» Le Lac الشعرية، وقد نظمها غير شاعر عربي، أو تكون واضحة وصريحة مرّة، واستلهامية مرّة أخرى، كما في ترجمات أسطورة «بيغماليون»، وثانيها الإحساسات، كالألم العبقري في الرومانسية، وهذا كثير في شعر دي موسيه ولامارتين وهوغو، وقد تجلّى في الشعر العربي الحديث في أعمال مطران وصلاح لبكي ونديم محمد وشعراء جماعة أبولو. أما المثال الثالث فهو في نموذج المرأة البغي الفاضلة في قصائد بعض الشعراء الذين اتصلوا اتصالاً مباشراً بالشعر الرومانسي الفرنسي.
هذه ثلاثة أمثلة تجلّى فيها التأثر بالصوت تأثراً مباشراً، وهذا لا يعني –ولا سيّما في الشعرـ  أنّ الصوت الأول واضح ومهيمن في الصوت الثاني، ولكنّه يعني في حالات التلقي الإبداعي أنهما صوتان أخذ الثاني من الأول عنصراً، ثمّ هضمه وأضاف إليه من لغته وأسلوبه وإحساساته وتجربته ورؤاه عناصر، فحُمل هذا العنصر الغريب من بيئته إلى بيئة النص الجديد ضمن تداخلات وتفاعلات نصيّة، ولذلك كانت قصيدة «البحيرة» مختلفة في ترجماتها الشعرية، فهي عند نقولا فياض وشحادة اليازجي تتراوح بين كلاسيكية الشكل والمضمون الرومانسي، وهي تستلهم عند فياض نونية ابن زيدون، ويتداخل النصّ الشعري الجديد بنصوص شعرية عربية أخرى، حتى إنّه ليغدو غريباً عن النّص المترجَم، وهي تنتمي، عند إبراهيم ناجي وعلي محمود طه إلى النظام المقطعي إيقاعيَّاً والمدرسة الرومانسية التي اشتهرت بها جماعة أبولو لغةً، ولذلك كانت لكلّ قراءة شعرية إنتاجية لبحيرة لامارتين في الشعر العربي نكهة خاصة وأسلوب مختلف.
أما التأثر اللا مباشر (الصدى) فإننا نجده في الوساطات الإبداعية، ونقدِّم مثالاً لتوضيحه من بعض شعر أبي القاسم الشابي في موضوع الغاب.
كان الشابي من أبرز الشعراء الرومانسيين العرب مع أنّه لم يكن يتقن لغةً أخرى غير العربية، وقد جاء في إحدى رسائله إلى صديقه محمد الحليوي: «نسيتُ أن أذكر لك أنّ ممّا طلبه منّي أبو شادي في رسالته الثانية أن أمدّه من حين لآخر ببعض الدراسات والأبحاث وعلى الخصوص في الأدب الفرنسي. فصاحبنا يعتقد أنّي أعرف الأدب الأجنبي ولذلك يطلب منّي هذا الطلب. وإنّه ليحزّ في قلبي يا صديقي ويُدمي نفسي أن أعلم أنّني عاجز، عاجز، عاجز، وأنّني لا أستطيع أن أطير في عالم الأدب إلاّ بجناح واحد منتوف»(30).
لكنّ هذا النقص دفع الشابيّ إلى أن يقرأ المترجمات بنهم ووعي(31)، فاستفاد منها في تكوين ثقافته النقدية وملكته الإبداعية، وكان تأثير جبران فيه كبيراً(32)، كما تأثر بأدب المهجر(33)، وبالمدرسة الغربية الرومانسية(34)، وتأثّر بخليل مطران(35)، وبالعقاد(36) وسواهم، ولكنّ تأثره بكلّ هؤلاء لا يُخفي ما في شعره من أصالة دافقة وشاعرية متميّزة.
وحبّ الطبيعة والتغنّي بجمالها والالتجاء إليها من أهمّ سمات الرومانسية، وجان جاك روسّو عاشق الطبيعة كان يشعر أنّه مضطهد ممّن حوله، ففرّ من المجتمع الجديد وتعقيداته وزيفه إلى عالم الطبيعة البكر ببساطته وعفويته وأمنه، وهو يؤمن بأنّ الإنسان ولد خيّراً، ولكنّ المجتمع أفسده، وعليه أن يعود إلى براءته وعفويته وصفائه الأوّل، ولا يتمّ له ذلك إلاَّ بعودته إلى أحضان الطبيعة.
لقيت أفكار روسو والرومانسيين في الطبيعة صداها في نفس جبران الذي تألّم هو الآخر ممّا لاقاه من المجتمع، فتعلّق بالطبيعة بعامة وبالغاب رمز الطبيعة بخاصة، ولتعلّقه بالغاب عدد من العوامل، أهمّها حنينه الدائم إلى لبنان موطن الغابات، ولا سيّما في بلدته بشريّ، وحنينه الدائم إلى غابة مارسركيس فردوسه المفقود حيث اعتاد أن يجتمع بحَلا الظاهر وأختها، وكان اطلاعه المباشر على أعمال روسو –في أثناء إقامته في باريس ـ  عاملاً في تشكيل حبّ الطبيعة في نفسه من جهة، وتشكيل صورة الغاب المثالية من جهة أخرى في شعره.
يقسم العالم في «المواكب» 1919م ـ النّص العربي الأول الذي أبرز صورة الغاب المثاليةـ  إلى عالمين متناقضين: عالم المجتمع، وفيه عبودية الإنسان للإنسان والمال، وفيه الرياء وحقّ القوّة والحبّ المصطنع، وعالم الطبيعة المتمثّل في الغاب، وهو عالم الحريّة والصدق والعدل والخلود، وهو عالم جبران الذي بناه من الأحلام والأضواء الروحية.
إنّ هجرة جبران من العالم الأوّل إلى العالم الثاني هي هجرة من المكان إلى اللاّ مكان ومن الزمني إلى اللاّ زمني، ولذلك كان الغاب مسرحاً للسعادة اللاَّ زمانية ويوتوبيا الخلود وصورة للمطلق واللاّ محدود، ويخرج فيه الإنسان من عالم الثنائيات إلى عالم الطمأنينة، ومن عالم التوتر والقلق والصراع إلى عالم الهدوء والموسيقا، ومن عالم الماديات إلى عالم الروح، حيث لا موت ولا قبور، وحيث الربيع الدائم والسّرور الأبدي:
ليس في الغاباتِ موتٌ


لا ولا فيها القبورْ

فإذا نيسانُ ولّى


لم يمتْ معهُ السّرورْ

إنّ هولَ الموتِ وَهْمٌ


ينثني طيَّ الصُّدُورْ

فالذي عاشَ ربيعاً


كالذي عاش الدّهورْ(37)

قد كان جبران يصدر في تشكيل صورة الغاب عن خلفية ثقافية شاملة، فوراء هذه الصورة فلسفات الشرق والغرب، وثقافة أدبية وفنيّة واسعة، وتجربة عميقة، وموهبة نادرة، ولذلك كانت صورة الغاب في قصيدته الطويلة هذه نموذجاً ورمزاً في الشعر المهجري للطبيعة البكر.
وغاب الشابي صورة عن غاب جبران، فهو عالم مثاليّ داخليّ صوفيّ، وهو بديل من الواقع، هو المكان الذي يخلو من المنغّصات والصراع وعالم الثنائيات، وهو اللاّ مكان الذي انتقلت صورته إلى معظم شعر الطبيعة عند الشابي، ولذلك يصوّر غابه خالياً من أنفاس الذئاب والثعالب والقيود، وليس فيه سوى الأزاهير والأعشاب العذبة وأناشيد النحل، وإذا كان جبران قد سبق الآخرين إلى غابه، فتحدَّث لهم عن الاستحمام بالعطر والتنشّف بالنور فإنَّ الشابيّ أيضاً لم يجد الوقت الكافي ليسوق شياهه إلى غابه أو ينتظرها، ولكنّه سبقها إليه، ثمّ دعاها إلى أن تتبعه لتحيا في سعادة غامرة شبيهة بسعادته الأبدية:
واتبعِيني يا شِياهي، بينَ أسْرَابِ الطيورْ
وامْلَئِي الوادِي ثُغَاءً، ومُرَاحاً وحُبُورْ
واسْمَعِي هَمْسَ السَّوَاقي، وانْشَقِي عِطْرَ الزُّهُورْ
وانْظرِي الوادي يُغَشيِّهِ الضبابُ المُسْتَنِيرْ(38).
ويمكننا أن نتوصّل ـ من خلال هذا التشابه في المضمون واللغة والوزن الواحد (مجزوء الرمل) والصور الجديدة ـ إلى أن نجد أن الطبيعة ـ ويمثّلها الغاب ـ  عند روسّو والرومانسيين كانت المصدر الذي نهل منه جبران، فأبدع في قراءة الصوت، وأعاد صياغته وإنتاجه، وكانت قصيدته الطويلة «المواكب» نتيجة لهذه القراءة، وهي إنتاج مختلف عن إنتاج الرومانسيين الغربيين أنفسهم، فكان غاب جبران شرقيَّاً صوفيَّاً يعبّر عن نفسيته المتطلّعة إلى الانعتاق والتحرّر، وكان جبران المتلقي المبدع الذي حوّل التلقي إلى إرسال جديد، فكان مصدراً أو وسيطاً، بين الرومانسيين وفلسفاتهم وأدبهم والشعراء العرب في المهجر والوطن بعامة، والشابي الذي أعاد صياغة الصوت الصدى، فكان متلقّياً ومبدعاً في آنٍ معاً بخاصةٍ.
ويمكننا أن نُلحق بالتأثير اللاّ مباشر ما يمكننا أن نسميّه «التأثير الخاطئ»، ويدخل هذا النوع ضمن «التشابه» Ressemblance أو «التوازي» Parallélimse إذ يكون التشابه والتوازي ناجمين عن المعطيات المتشابهة، لا عن صلة سببيّة، كأنْ يكون لدينا عملان من لغتين مختلفتين وفيما بينهما تشابه في الأفكار أو المضمون أو الصور أو الأسلوب أو سوى ذلك، ولكن ليس بينهما اتصال، ثمّ يجد الباحث أنّ مردَّ هذا التشابه إلى أنَّهما قد تأثرا بمصدر واحد من لغة ثالثة، فإذا رمزنا إلى العمل الأوّل بـ«أ» والثاني بـ«ب»، فإنّ هناك طرفاً ثالثاً هو المصدر، ونرمز إليه بـ«جـ» فيكون التشابه بين أ و ب، ولكن ليس بينهما تأثير مباشر أو مراسلة أو تماس لانعدام السببيّة بينهما، ولكنّ الصلة والسببية والتأثير قائمة بين أ و ج من جهة، وبين ب وج من جهة أخرى، ولذلك يكون التأثير الخاطئ بين (أ) و (ب).
ب ـ مفهوم التأثير بحسب القدرة الإبداعية عند المتلقّي: نقسّم مفهوم التأثير بحسب القدرة الإبداعية عند المتلقّي إلى تأثير إيجابي وتأثير سلبي. أما التأثير الإيجابي فإنّه يشير بوساطة الصفة«الإيجابي» إلى أنّ العمل الثاني لا يقلّ جودة وأصالة وإبداعاً وتماسكاً عن العمل الأوّل، مع تأكيد الاتصال فيما بينهما، وإنّنا لننسى الأصوات الأولى التي دخلت في تشكيل الصوت الثاني، فلا يبقى هذا الصوت صدىً للصوت الأول، وإنّما هو صوت جديد باختلافاته واستقلاله ومداره الخاص، فإذا استفاد شاعر عربي من شاعر غربي في أيّ مجال، وكان الشاعر العربي مبدعاً فإنّه يهضم ما يتلقّاه، ثمّ ينسجه مع مكوّنات أخرى بلا وعي منه في نسيج خاص جديد مختلف عن النسيج في العمل الأول، وقد أشار إلى ذلك بول فاليري، فقال: «لا شيء أدعى إلى إبراز أصالة الكاتب وشخصيته من أن يتغذّى بآراء الآخرين، فما الليث إلاّ عدّة خراف مهضومة»(39)، وقد أدرك ذلك جبران في قوله: «إنما التأثير شكل من الطعام تتناوله اللغة من خارجها فتمضغه وتبتلعه وتحوّل الصالح منه إلى كيانها الحيّ كما تحوّل الشجرة النور والهواء وعناصر التراب إلى أفنان فأوراق فأزهار وأثمار. ولكن إذا كانت اللغة بدون أضراس تقضم ولا معدة تهضم فالطعام يذهب سُدىً، بل ينقلب سُمَّاً قاتلاً»(40).
وليس من المعيب أن يستفيد شاعر كبير من شاعر أجنبي كبيرٍ أو صغير في قضية من قضايا الإبداع الشعري، وهذه قضية هامة أكّدها غير باحث في الأدب المقارن، «ونحن إذ نبحث في هذه المشكلة بحثاً منظَّماً، ننبّه إلى أنّ عالم الأدب المقارن لا يفرّق تفرقة تقييمية بين العامل المرسل والعامل المتلقّي في عملية التأثير، فليس ممّا يمسّ الكرامة أن يتلقّى المؤلّف شيئاً، كما أنّه ليس ممّا يستحق المدح أن يرسل مؤلّف ما تأثيراً»(41).
ويتجلّى دور المرسل في التأثير في مرحلة ما قبل إبداع العمل الثاني، ولا يدخل هذا الدور في تكوين العمل تكويناً أساسياً، فيصبح العمل الثاني نسخة عن العمل الأول، فليس المؤثر أكثر من عامل مساعد على الإبداع والإنتاج، وليس المقصود بعملية التأثير أن يترسَّم الطرف الثاني خُطا الطرف الأول كلّها، فيتحوّل هذا العمل حينذاك إلى تقليد imitation، فلا بدّ من أن ينطلق الطرف الثاني في إنتاج عمله من تقاليده الثقافية، ويعبّر من خلال الأوزان والفاعلية اللغوية العربية عن تجربته من خلال تجربة الشاعر الأول التي تتماثل مع تجربة الشاعر الثاني، وقد اختارها لهذا السبب، ولو عبّر الشاعر العربي عن تجربة شاعر بوساطة الترجمة الشعرية، فإنّه لا يقلّده إلاَّ إذا كانت موهبته عادية، وإنّما تتسرّب إلى العمل الشعري المترجم إحساسات الشاعر العربي المتمثّلة في قراءة التجربة وإعادة إنتاجها، وهذا ما حدث ـ مثلاًـ  في نونية نقولا فياض، فأدخل ضمن تجربة لامارتين في«البحيرة» تقاليده الشعرية، فكانت القرابة إلى نونية ابن زيدون لا تقلُّ عن القرابة بين«البحيرة» وترجمتها الشعرية، ولم تبقَ أعمال سان ـ جون بيرس في ترجمة أدونيس ذات انتماء إلى الثقافة الفرنسية فحسب، وإنّما غدت جزءاً من الصوت الأدونيسي ومن تراثه الثقافي بعد أن أدخل فيه تقاليده وتجربته، ولذلك صرّح أدونيس بأن عمله المترجم ينتمي إلى سان ـ جون بيرس الأدونيسي(42).
يسوقنا ما تقدّم إلى أن نلجأ إلى مفهوم الشكل العضوي للحكم على قيمة العنصر المؤثر في النصّ الجديد والمقدرة الإبداعية عند المتلقّي ـ المرسِل، فإذا ظلّ المأخوذ رقعةً على جسد النّص الجديد، فهذا يعني أنّ المرسل الجديد لم يستطع أن يوظِّف هذا العنصر توظيفاً جديداً، أما إذا أصبح المأخوذ مكوِّناً من مكوّنات الصورة العامة والبنية الكليّة فهذا يعني أنّ المتلقي ـ المرسِل استطاع أن يوظّف ما أخذه للتعبير عن تجربته، فثمة –مثلاًـ  صورة لـ «إليوت» في قصيدته «الأرض الخراب» كثر تواردها في الشعر العربي المعاصر، وبخاصة في شعر المدينة، وهو يعبّر من خلالها عن الازدحام في المدنيّة المعاصرة وفقدان العلاقات الإنسانية في هذا العالم، وقد حضر السياب إلى لندن للمعالجة، لكنّ أوجاعه تزايدت، ولم يجد اليد الحانية والصديق المواسي أو الزوج التي تقف إلى جانب زوجها في محنته لتخفِّف من آلامه ووحدته واغترابه الجسدي والروحي، وقد دفعته هذه الإحساسات المختلفة إلى أن يتوجّه إلى قصيدة «الأرض الخراب» ليستعير منها هذه الصورة، ليحوّلها من التجربة العامة التي تومئ إليها القصيدة ـ الأمّ إلى التجربة الذاتية التي عاشها السيّاب في رحلته المأساوية مع المرض، وقد وظّف هذه الصورة توظيفاً عضويَّاً في بنية قصيدته، فتوجَّه إلى زوجه البعيدة عنه في العراق يلتجئ إليها من هذا العالم الذي لا يستمع إلى أنينه ونجواه:
بعيداً عنكِ أَشْعُرُ أنّني قد ضِعْتُ في الزَّحْمَهْ
وبَيْنَ نواجذ الفولاذِ تمضَغُ أضلُعِي لقمهْ.
يمرُّ بيَ الورى متراكضينَ كأَنْ على سَفَرِ،
فهل أستوقفُ الخطواتِ؟ أصرخُ: «أيُّها الإنسانْ
أخي، يا أنتَ، يا قابيلُ.. خُذْ بيدي على الغُمَّهْ!
أَعِنِّي، خَفِّفِ الآلامَ عنِّي واطردِ الأحزانْ»؟
وأينَ سواكِ مَنْ أدعوهُ بينَ مقابرِ الحجرِ؟(43).
أما التأثر السلبي فهو الناجم عن التقليد، واكتشافه سهل على القارئ، وذلك لأنّ شخصية المتلقي تذوب في شخصية المرسل التي تهيمن عليها هيمنة تكاد تكون كليّة، «وليس ما يجري في هذه الأحوال من قبيل التأثير، بل هو من قبيل التقليد»(44).
جـ ـ مفهوم التأثير بحسب المرسِل: تقسم صور التأثير بحسب المرسل إلى مرسِل معلوم ومرسِل مجهول، أمّا الأوّل فهو فرد ذو إنتاج محدّد، كنزار قباني أو شكسبير أو نجيب محفوظ، وتكون فيه نسبة النّص إلى صاحبه محقّقة، وهذا ما يغنينا عن الإطالة.
وقد يكون المرسِل المجهول فرداً، وهو صاحب عمل مشهور، ولكنّ نسبة الإنتاج إليه غير مؤكّدة وغير متّفق عليها اتفاقاً تامَّاً، كنسبة بعض القصائد إلى شوقي في «الشوقيات المجهولة»، وقد يكون المرسِل أمّةً أو شعباً، وهذا ما يشكّل «التقليد الشفوي» Tradiction orale.
والتقليد الشَّفَوِيّ خلاصة إنتاج لشعب من الشعوب، وهو ملك جماعة ومصدر إلهام لكثير من المبدعين، وهو ميدان واسع يشمل الخرافات والقصص والأساطير والشعر الشعبي والموسيقا والعادات والتقاليد والأمثال الشعبية، وكلّ ما ينتقل من جيل إلى جيل بوساطة الرواية الشفوية والذاكرة الجماعية، وهو مغلّف بغشاء ديني أو خرافي أو أسطوري أو سحري، ويتّصف بالاستمرار والتنوّع، وطابعه لا شخصي(45).
وينتقل هذا التقليد من بيئة إلى أخرى بوساطة الرحلات والهجرات والبعثات والحروب وامتزاج الشعوب والحضارات، أو عن طريق الرقيق والجواري، كما حدث –مثلاًـ  في نقل زنوج أفريقيا إلى أمريكا، وقد صحبوا معهم عاداتهم وتقاليدهم وموسيقاهم وأغانيهم وغير ذلك.
وتتطوّر التقاليد الشفوية أفقيَّاً وعموديَّاً، وهي تتطوّر أفقيَّاً بتعدّد الشعوب وبانتقالها من مكان إلى آخر بوساطة الرحلات والهجرات وأمثالها، فيفرض عليها المكان الثاني «المتلقّي» مذاقاً خاصَّاً يتلاءم مع خصوصيته القومية، فتتغيّر الأسماء وبعض العادات والتقاليد والمعتقدات، وينتاب الحدث شيء من التطوير، وبخاصة في الحكايات الشعبية.
وتتطوّر التقاليد الشفوية عموديَّاً بانتقالها عبر الزمن من جيل إلى جيل، فيُضيف الجيل المتلقّي مزيداً من الإبداعات التي تعود إلى التغيّرات الزمنية والذاتية، وتكون هذه الإبداعات استمراراً للماضي الذي تلقّاه هذا الجيل أو ذاك عن سلفه، وهي في الوقت ذاته محطّة ومصدر من مصادر الإبداع المستقبلي، وهكذا...
د ـ مفهوم التأثير بحسب اتجاه الموضوع: نقسم صور التأثير بحسب اتجاه الموضوع إلى تأثير توافقي وتأثير معكوس، ويتجلّى الأول منهما في أن يكون العملان: المرسِل والمتلقّي متوافقين في رسم الأحداث أو الشخصيات أو الصورة العامة، وهذا كثير في الأدب المقارن، ويمكننا أن نسميّه أيضاً «التأثير الترسميّ»، وتتجلّى سلطة المرسل في هذا النوع أحياناً بانتشار أفكاره وموضوعاته وصوره ونماذجه في الأدب المستقبِل، ولنا في ترجمات «البحيرة» وصور «الألم العبقري» وصورة «البغي الفاضلة» و «المرأة الملاك» في الرومانسية وغيرها ما يُغنينا عن الإطالة.
ويكون النقص والإعجاب أحياناً باعثين على التأثير التوافقي، وقد يشكّلان باعثين قويّين مركّبين على هذا التأثير، فالاطلاع على ما عند الآخر من آراء وصور أو أفكار أو نماذج أو أجناس أدبيّة يفتقر إليها الأدب المتلقي يدعو إلى مثل هذا التأثير، فمارون النقاش ـمثلاًـ  كان تاجراً يتنقّل بين بيروت وإيطاليا، وكان يتردّد في أثناء إقامته في بعض المدن الأوروبية على المسرح، فأدهشه ما كان يراه، ووجد أنّ أدبه يفتقر إلى مثل هذا الفنّ، فنقله إلى العربية، وكذلك كانت صورة «البغي الفاضلة» في الرومانسية جديدة على الفكر والأدب العربيين، وبخاصة في أواخر القرن التاسع عشر، إذْ مرّت البلاد العربية بمرحلة شبيهة إلى حدّ ما بالمرحلة الرومانسية في أوروبة، فأخذت هذه الصورة تتردّد على الشعر العربي الحديث، وكانت دافعاً لوجود القصة الشعرية من جهة، وإطالة العمل الشعري من جهة أخرى.
أما التأثير المعكوس influence à Rebours فهو يعني الاختلاف والتعدّد والتنوّع في الأدب المقارن، ولكنّه غير الاختلاف في مدرسة الأدب المقارن الأمريكية، لأنّ التأثير المعكوس –هناـ  نتيجة من نتائج الاتصالات المباشرة، وقد يكون هذا التأثير نتيجة للتقاليد النظميّة المختلفة بين لغتين لكلّ منهما أصوله النظمية والإيقاعية، ويختلف التأثير المعكوس لغةً وأسلوباً وصوراً، وقد يكون حول موضوع من الموضوعات، أو حول شخصية من الشخصيات التاريخية، وهذا ما وجده محمد غنيمي هلال في تأثر أحمد شوقي في مسرحيته الشعرية «مصرع كليو باترا» 1927م بالأعمال المسرحية الغربية الكثيرة التي أظهرت كليو باترا (76ـ 30ق. م) على أنّها امرأة شرقية مصرية مستهترة بغي، ولذلك حاول شوقي أن يردّ إليها اعتبارها أمام التاريخ بصفتها ملكة مصرية تقدِّم مصلحة وطنها على حبّها، وقد تأثّر شوقي بأولئك الأدباء والمؤرخين تأثيراً عكسيَّاً(46).
ـ 4 ـ
ثمّة ثغر في مقولة التأثير حاول بعض المهتّمين بالأدب المقارن الولوج منها للانقضاض على هذه المقولة، وأهم المآخذ:
أـ المفهوم السببي: ترتكز الصلات الأدبية في المدرسة الفرنسية على مفهوم السببيّة، وهو يشكّل ثغرةً دلف من خلالها أعلام المدرسة الأمريكية وأنصارهم، ويتجلّى هذا المفهوم في أنّ للمرسِل الدور الأعظم في العملية الإبداعية عند المتلقّي، والتفسير السببيّ آليٍّ، وهو رجوع إلى الماضي بلا نهاية وبلا جدوى، فقال رينيه ويليك في هذا المجال: «وما عاد للظهور كان إلى حدٍّ كبيرٍ هو تلك الحقائقية الموروثة عن التراث التجريبي الوضعي العام الذي يدعمه مثال الموضوعية العلمي والتفسير العِلِّي. وكان ما حققه المشتغلون بالأدب المقارن في فرنسا لا يعدو التجميع الضخم للأدلة الخاصة بالعلاقات الأدبية، خاصة فيما يتعلّق بتاريخ مكانة الكتّاب وبالوسطاء ما بين الشعوب –بالرحّالة والمترجمين والمعرّفين ـ والفرضية المسلّم بها في مثل هذه البحوث هو وجود الحقيقة الحيادية التي يظنّ أنّ من الممكن ربطَها بغيرها من الحقائق التي سبقتها كما تُربط حبّات العقد بالخيط، لكنَّ مفهوم العلّة بمجمله في الدراسة الأدبية مفهوم تعوزه النظرة النقدية، إذ لم يبرهن أحد لحدّ الآن أنّ عملاً فنيَّاً ما عِلّته في عمل فنيّ آخر حتى ولو جمعنا أوجه التماثل والشبّه. ولقد يكون العمل الفنيّ اللاحق مستحيلاً بدون العمل الفنيّ السَّابق، ولكن لا يمكن التدليل على أنَّ السّابق علّة للاَّحق، ولذا فإنَّ مفهوم الأدب الذي تقوم عليه هذه الدراسات مفهوم خارجي غالباً ما تُعيبه العواطف القومية الضيّقة، والرغبة في حساب الثروات الثقافية، أي حساب الدائن والمدين في أمور الفكر»(47).
ب ـ المركزية الأوربية: تتّهم أيضاً مقولة التأثير والدراسات التي قامت عليها بالتركيز على الأدب الأوربي بعامة، والأدب الفرنسي بخاصة، وكأنَّ الأدب لا يعرف إلاّ اتجاهاً واحداً وقوّة واحدة، وكأنّ أوربة هي الشمس التي تُرسل أضواءها إلى الأجرام المظلمة، وبهذا تكون دائماً هي الدائنة والعالم مديناً، وتكون هي المرسلة والعالم متلقّياً، وتكون هي المبدعة والعالم مقلِّداً.
ج ــ المنهج التاريخي وتاريخ الأدب: يذهب أعلام المدرسة الأمريكية في الأدب المقارن إلى أنّ المدرسة الفرنسية شغلت نفسها بدراسة الصّلات والمبادلات والتحقّق منها، وابتعدت عن النّصّ ودراسته، ولذلك هي ـ من وجهة نظرهم ـ  تنتمي إلى تاريخ الأدب أكثر ممّا تنتمي إلى الأدب والنقد الأدبي.
د ـ الاهتمام بكتّاب الدرجات الدنيا: تتّهم مقولة التأثير بأنّها تهتمّ أحياناً بكتّاب من الدرجات الثانية والثالثة والرابعة، والمهم عند المقارن أن يجد ضالته في هذا النصّ أو ذاك ليُقيم عليها دراسته، وكأنّ المركزية في الأدب هي الغاية والأدب هو الوسيلة.
لا بدّ من القول أوّلاً إنّ أيّ نظرية أو مقولة أو منهج لا يتحمّل وحده تبعة سوء التطبيق بنيّة القَصْدِيّة أو بسواها، والمفهوم السببي الذي دلف منه أعلام المدرسة الأمريكية، وفي مقدّمتهم ويليك، هو قانون الحياة نفسها، فالكبير يعلّم الصغير، ويؤثّر السَّابق في اللاّحق والقويّ في الضعيف، ولكنّ الحياة لا تجري على وتيرة واحدة، فهي متحرّكة دائماً، وثمّة شعوب تنتهي لتولد شعوب أخرى، وتهمد أمم قليلاً، لتعود إلى حيويّتها مرّة أخرى، ولذلك ليس المهمّ من يرسِل التأثير، ولكنّ المهمّ أن يتعلّم الصغير، ويتقدّم اللاّحق، ويقوى الضعيف، والأهمّ من ذلك كلّه أن يتجاوز الضعيف بقوّته الجديدة دائرة التلقّي إلى دائرة الإنتاج والخصوصية، فيخرج من محطّات الاستقبال إلى محطّات البثّ.
ثمّ إنّ الشاعر الكبير لا يعيبه أن يتأثر، بل على النقيض من ذلك، فالتأثر يشبه خميرة فعّالة خمرت العجين وأنضجته، وهي ليست أكثر من عامل مساعد على معرفة الذات، ونحن ندعو ـ في عصر القراءة والتلقّي ـ إلى القراءة والانفتاح على آفاق لا محدودة لإنتاج التعدّد والاختلاف والمنافسة لمعرفة ذواتنا على حقيقتها، ثمَّ إنّ لنا أمثلة على ذلك في هذا المجال، فشكسبير كبير أدباء الإنكليز –مثلاًـ  أخذ المزيد من سواه، ولكنّه بقي كبيراً، وكذا شأن المتنبي الذي فقه حكم اليونان وأمثلتهم وأمثالهم وصاغها شعراً لا يدلّ إلاَّ على أسلوبه وخصوصيته، وماذا يضير السياب أو خليل حاوي إذا تأثّرا بإليوت أو سواه وأنتجا شعراً عربيَّاً خالصاً؟ ثمَّ ألم يتأثر إليوت نفسه بالشعر الرمزي الفرنسي؟!
ثمّ إنّ مبدأ التأثير لا يُضير الأدب والفكر العربيين، بل هو يعزّز حضورهما، فالأدب العربي كان في كثير من مراحله مرسِلاً ومعلّماً ومتبوعاً، ويمكننا أن نتوقّف في مجال الميثات –مثلاًـ  عند ميثة جلجامش وتأثيراتها في الشخوص الأسطورية الإغريقية، ونجد في مجال الدين أنّ مهبط الديانات السماوية في بلاد العرب، وانتشرت منها شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، وتطالعنا في مجال الأدب الشعبي حكايات «ألف ليلة وليلة» بفتوحاتها في رواية عصر التنوير الفرنسية بعد أن ترجمها المستشرق أنطوان غالان (1646ـ 1715م) بدءاً من عام 1703م فصدرت في اثني عشر مجلّداً، وقد حذف منها التكرار والشعر والاستطرادات والصور الجنسية الفاضحة، وكان غالان قاصَّاً بارعاً، فصاغها صياغة جديدة، فنجحت نجاحاً منقطع النظير، وتركت بصماتها على كثير من الأعمال الفرنسية والألمانية والإنكليزية والإسبانية، وتأثّر بها أعظم كتاب أوربّة من أمثال فولتير وغوته وألكسندر ديماس الأب وسواهم.
ويمكننا أن نتوقّف في القرن العشرين عند شاعر فرنسا لويس أراغون في عمله الضخم le Fou d Elsa الذي استقاه من سيرة مجنون بني عامر وسيرة أبي عبد الله الصغير، فضلاً عن التأثيرات الإسلامية في الكوميديا الإلهية وأعمال غوته وتأثيرات الموشّحات والمقامات في الأدب الإسباني، ولذلك فإن التأثيرات العربية في الفكر والأدب الأوربيين لا تقلّ عن التأثيرات الأوروبية في الفكر والأدب العربيين(48)، وإنّ اتجاه حركة التأثيرات بين العرب والغرب متداخلة متعاكسة متفاعلة، ولذلك فإنّ الفكر والأدب العربيين يقفان تاريخيّاً بشموخ إزاء الآخر لمنعتهما وأصالتهما.
ونتوقف أخيراً في مفهوم التأثير عند منظوري المماثلة والمقابلة من جهة، والتناص من جهة أخرى، وهذا لا يلغي المنهج التاريخي، وإنّما يعزّز وجوده في عملية النقد الأدبي، ويقرّب مدرسة الأدب المقارن الفرنسية من النقد الأدبي نفسه.
يرتبط مبدأ المماثلة بمبدأ المقابلة، فالمماثلة شرط من شروط التأثّر والتأثير، وهذا يعني أنّ هناك سابقاً ولاحقاً، فمنظور المماثلة يتضمّن رغبة اللاّحق في مماثلة السابق تحت تأثير الإعجاب، أو بدافع توكيد انتماء اللاَّحق للسّابق، فإذا ظلّ اللاحق ضمن هذا المنظور فإنّه يقدّم صورة مشوّهة عن العمل السّابق، وهي صورة تكرّر ما تقوله الصورة الأولى غالباً، وهنا يظلّ العمل اللاحق في دائرة التقليد، ويظلّ السّبق الزمني مقترناً بالسّبق الفنّي، كما يظلّ الأصل أصلاً والفرع فرعاً.
أما مبدأ المقابلة فهو يتضمّن في داخله المنافسة والوصول إلى التفوّق والتجاوز، وتعني المقابلة مقابلة النموذج المتقدِّم زمناً بالنموذج المتأخّر زمناً رغبة في إثبات التفوّق، وتحقيق السبق الفنّي ما دام تحقيق السبق الزمني المحسوم لمصلحة المرسِل والأصل والأبوّة قد تعذّر، ولكنّ التفوق الفنيّ أو السبق الفني لا يُلغي الحبل السرّيّ أو الإعجاب أو السبق الزمني، أو الانتماء الذي يصل العمل المتأخّر بالعمل المتقدِّم زمنيَّاً، وهذا يعني أن المنهج النقدي لا يُلغي المنهج التاريخي، أو المقارنة بين عملين بينهما هذا الحبل السريّ، والمحاكاة ـ هناـ ليست ساذجة، ولكنّها محاكاة أرسطية مبدعة، وهكذا تتحقّق الأصالة في التأثير بعد عملية التلقّي المبدع، فالتأثير لا يحلُّ أصالة محلّ أخرى، «بل هو من باب أولى، ذلك الذي» يُحرِّرُ «الأصالة من بعض قيودها الإقليمية أو الظرفية. كلّ تبديل في الأصالة هو فعل تبنٍّ لأصالة أخرى، وثمّة فرق كبير بين أن نبني جديداً أو أن نتبنّاه»(49)، وليس ذلك فحسب، ولكن التأثير لا يعني التقليد، وإنّما يعني التجديد والإبداع والخروج على الجمود والأشكال القديمة إلى آفاق واسعة، «فمن يقلّ تأثيراً يقلّ حركة البحث عن أشكال جديدة أكثر تعبيراً وأفضل تعبيراً عن أشكال سابقة»(50).
وتعني المقابلة فيما تعنيه التعدّد والاختلاف والأصالة، فعملية التأثير تعني التعدّد، أي القدرة على استيعاب الآخر ومواجهته، ويتضمّن استيعاب الآخر إبداعيّاً التركيب والاختلاف، فأنت، حين تعرف الآخر، تقدّم صورتك وصورته، وهذا يعني أنّك تقدّم صورة الآخر ضئيلة، كاللقاح الذي يحمل جرثومة المرض مخفّفة بهدف الصحة، ولتحريض كريات الدم وتنشيطها، ولذلك أنتَ تقترب من المرض لتبتعد عنه، وتقترب من الآخر لمعرفته والتحصّن منه، والآخر يعيش معك في منزلك اليوم، ولذلك أنتَ تحمل الآخر في ذاتك، لتتحوّل بتحويله والذات إلى إنتاج جديد منفتح على الآخر ومعبّر عن الأصالة والتجديد والحياة في آنٍ معاً.
ولا تخرج مقولة التناص عن مبدأ المقابلة كثيراً، فالتناص ـ مصطلحاًـ  تشكيل نصّ جديد من نصوص سابقة أو معاصرة تشكيلاً وظيفيَّاً، بحيث يغدو النص الجديد خلاصة لعدد من النصوص التي امحّت الحدود بينها، وكأنّها حطام لمعدنٍ ما، أو حطام لأنواع من المعادن أُعيد تشكيلها وصياغتها تشكيلاً جديداً بحيث لا يبقى بين النّص الجديد وأشلاء النصوص السابقة سوى المادة وبعض البقع التي تشير أو تومئ إلى مرجعها، ولذلك يدخل اللاّ شعري في الشعري، ويتفاعل معه، ويتضامّ، ويتواشج، ويتعاقد، ويتداخل، حتى يغيب الأصل غياباً لا يدركه سوى أصحاب الخبرة(51)، ولذلك يشتمل التناص على منظوري المماثلة والمقابلة معاً، وإن كانت الحوارية في التناص بديلاً من المماثلة.
يتّفق مفهوم التأثير إبداعيَّاً مع التناص، ولكنّه يختلف معه في تأثير المحاكاة، وأهمّ وجوه الاتفاق مبدأ السابق واللاحق، فالنّص الجديد إنتاج لنصوص قديمة معروفة أو غير معروفة، أو هو خلاصة لما لا يُحصى من النصوص الكائنة في الذاكرة أو القابعة في اللاّ وعي، وهذا يعني أنّ النصوص تتسلّل إلى داخل نصّ آخر، حتّى إنّه لا يعود ثمّة وجود لنصّ محايد أو بريء فإذا كان النّص الجديد يقلّد الأصل بنيّة القصدية ابتعد التأثير عن التناص، وإذا كان النّص الجديد يمتصّ ويحوّل النصّ القديم ويتحوّل معه وفيه، ويذوبان ذوباناً كليَّاً لإنتاج نص مستقلّ له سمات جديدة، فإنّ التأثير يتلاقى مع المقابلة والتناص، لأنّ حضور هذه السمات الجديدة طاغٍ وملموس، وتتراجع، حينذاك، سلطة النص القديم لتفسح المجال لسلطة أخرى بولادة نصّ مغاير، فيعيش النصّ على أنقاض نصّ آخر.
وبعد، فإنّ مفهوم التأثير بحاجة اليوم إلى إعادة تحديد، وبخاصة إذا لم تكن دراسة التأثيرات غاية بذاتها، «ويجب تغيير طابع دراسات التأثير بحيث توفر إضاءة مباشرة على توفّر قراءة الأعمال الأدبية وتعلّقها المتبادل معاً. ولتحقيق هذا فإننا بحاجة إلى قراءة تخييلية وحساسة مشفوعة بتصوّر حيّ لتاريخ الأدب يرتكز على وعي بالاعتماد المتبادل بين التاريخ والنقد. وتبديل المصطلحات لن يغيّر هذه الحاجة. مفهوم التأثير بحاجة إلى إعادة تحديد. يجب استخدامه بفهم ودقيق لمجاله وحدوده، ولكنّه جزء هام في التجربة الأدبية، وهو من القيمة والأهمية بمكانة توجب عدم إهماله(52).
ونقول أخيراً إنّ المنهج العلمي الرصين الذي يستند إليه مفهوم التأثير ما زال هو الأكثر رصانة وقوّة وعلمية بالرغم ممّا لاقاه من خصومات، وما زال المنهج الوحيد من مناهج الأدب المقارن الذي يطمئنّ إليه الباحث الحصيف، وإن كان ذلك لا ينفي ما لبعض المناهج الأخرى من فوائد، ولكنّها تظلّ خارج دراسات الأدب المقارن، ومن هنا أرى أن أنهي هذا البحث برأي لأحد الدارسين في هذا المجال:» هذا المنهج الذي عرضنا لملامحه الرئيسية في كتابات د. محمد غنيمي هلال هو «منهج المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن، وهو الأكثر علمية وأصالة من منهج المدرسة الأمريكية التي لا تهتمّ بإثبات الصلة التاريخية بين الآثار الأدبية، بل تميل هذه المدرسة إلى دراسة مؤلّفات الأدب كيفما اتفق على طريقة الموازنات التي تستند إلى إظهار التشابه والاختلاف بين تلك المؤلفات، وذلك في نظري لا جدوى منه، بل هو إطار سطحي يحتوي على معلومات عامة لا يسندها المنهج العلمي»(53).


الهوامش:
(1) انظر: فان تيغم، ب: الأدب المقارن، تر. سامي مصباح الحسامي، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، صيدا، بيروت، د. تـ  ص ص 18ـ 19، ومكّي، د. الطاهر أحمد: الأدب المقارن ـ أصوله وتطوّره ومناهجه، دار المعارف، القاهرة، ط1، 1987م، ص 194.
(2) الأدب المقارن، ص 6.
(3) المصدر نفسه، ص 19.
(4)Guyard, Mariusـ  Francois: La littérature comparée, (Que saisـ  je?
N 499), paris, 4 e éd. 1965, p. 12.
(5) الأدب المقارن، ص19.
(6) انظر: مكّي، د. الطاهر أحمد: الأدب المقارن، ص ص 237ـ 241.
(7) Van Tieghem, Philippe: les influences étrangeres sur la litterature francaise (1550ـ 1880), Presses universitaire de France, paris, 1961, p. 130.
(8) ديوان الخليل، دار مارون عبود، بيروت، 1977م، 3/517ـ 518.
(9) العقاد، عباس محمود، شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي، لجنة البيان العربي، القاهرة، ط3، 1965م، ص 192.
(10) المرجع نفسه، ص 193.
(11) انظر: مكّي، د. الطاهر أحمد: الأدب المقارن، ص ص 201ـ 226.
(è) تتلمذ محمد غنيمي هلال على يد «جان – ماري كاريه» Jeanـ  Marie Carré المتوفى سنة 1954.
(12) انظر: هلال، د. محمد غنيمي: الأدب المقارن، دار العودة ودار الثقافة، بيروت، ط5، د. ت، ص ص 429ـ 437.
(13) انظر تقديم الدكتور صالح الأشتر لترجمة مسرحية «عنترة» التي قام بها إلياس غالي وراجعها الدكتور صالح الأشتر، وهي من منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي ـ الفنّ الحديث العالمي، دمشق، د. ت، ص 8.
(14) انظر: حسّان، د. عبد الحكيم، أنطونيو وكليوباترا ـ دراسة مقارنة بين شكسبير وشوقي، الدار السعودية للنشر والتوزيع، جدّة، ط2، 1987م، وانظر: شوقي، أحمد: مصرع كليوباترا
(15) انظر: سلوم، د. داود: دراسات في الأدب المقارن التطبيقي، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، العراق، 1984م، ص ص 138ـ 165.
(16) انظر دراستنا التطبيقية لمسرحية «مجنون ليلى» في كتابنا: المسرحية في الأدب العربي الحديث، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1997، ص ص 46ـ 63.
(17) انظر المرجع نفسه، ص ص 14ـ 15.
(18) للتوسّع انظر دراستنا: صورة المرأة في الشعر الرومانسي: دراسة مقارنة بين الشعر الفرنسي والشعر العربي الرومانسيين، الموقف الأدبي، ع 244، آب 1991م.
(19) للتوسّع انظر: جينيت، جيرار: مدخل لجامع النّص، تر. عبد الرحمان أيوب، دار توبقال، الدار البيضاء، 1985م، ثمّ ترجمه عبد العزيز شبيل، وراجعه حمادي صمود، ونشره المجلس الأعلى للثقافة بمصر بعنوان «مدخل إلى النّص الجامع»، 1999م، وهذا ما قامت عليه رسالتنا في الدكتوراه، وهي بعنوان: «القصيدة المعاصرة المتكاملة بين الغنائية والدرامية»، ـ جامعة دمشق ـ 1986م، وهي تتناول تطوّر القصيدة الغنائية المعاصرة واتجاهها إلى التعبير الدرامي، وانظر دراستنا: تداخل الأجناسية في الشعر العربي المعاصر، مجلة جامعة دمشق للآداب والعلوم الإنسانية والتربوية، م 15، العدد الثالث، 1999، ص ص 9ـ 41.
(20) للتوسّع انظر: نجم، د. محمد يوسف: القصة في الأدب العربي الحديث 1870ـ 1914م، ونجم، د. محمد يوسف: المسرحية في الأدب العربي الحديث، وهلال، د. غنيمي محمد: الأدب المقارن، وسلوم، د. داود: دراسات في الأدب المقارن التطبيقي، ص 231 وما بعدها.
(21) انظر: علوش، د. سعيد: إشكالية التيّارات والتأثيرات الأدبية في الوطن العربي (دراسة مقارنة)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1986م، ص ص 22ـ 223، وينبغي أن ننبّه –هناـ  على أنّ هذه الدراسة قد صدرت بعد عام ضمن دراسة موسّعة لعلوش، وهي تشكّل القسم السادس من كتابه الضخم الذي كان في الأصل رسالة للدكتوراه نوقشت بجامعة السوربون الثالثة في عام 1982، ثم نُشرت بعنوان: مكوّنات الأدب المقارن في العالم العربي، الشركة العالمية للكتاب لبنان وسوشبريس المغرب، ط1، 1987م، والقسم السادس من ص 455 إلى ص 554.
(22) للتوسّع انظر: الموسى، د. خليل: البارودي رائد النهضة الشعرية الحديثة، دار ابن كثير، دمشق ـ بيروت، ط1، 1999م، والتناص والنصّ الغائب في معارضات البارودي، مجلة جامعة دمشق، م 14، ع1 1998م، ثمَّ نُشر البحث ضمن كتابه: قراءات في شعرية الشعر العربي الحديث (مرحلتا الإحياء والرومانسية)، مطبعة اليازجي، دمشق، 2001م.
(23) للصلات الرومانسية بين الأدبين الأوروبي والعربي انظر: بلاطة، عيسى: الرومنطيقية ومعالمها في الشعر العربي الحديث، دار الثقافة، بيروت، ط1، 1960م.
(24) للتوسّع في تأثير الرمزية انظر: كرم، أنطون غطّاس: الرمزية والأدب العربي الحديث، دار الكشاف، بيروت، 1949م، والجندي، د. درويش: الرمزية في الأدب العربي، مكتبة نهضة مصر، الفجالة، 1958، وأحمد، د. محمد فتوح: الرمز والرمزية في الشعر المعاصر، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1978، ومنصور، د. مناف: مدخل إلى الأدب المقارنـ  سعيد عقل وبول فاليري، مكتبة صادر، بيروت، 1980م.
(25) انظر: هلال، د. محمد غنيمي: الأدب المقارن، ص ص 374ـ 418، ومندور، د. محمد: الأدب ومذاهبه، نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة، 1998م.
(26) للتوسّع انظر الفصل الثاني، وهو فصل طويل، بعنوان: «المؤثرات والمكوّنات الخارجية بنية القصيدة العربية الحديثة»، وهو ضمن مخطوط مقدّم إلى اتحاد الكتاب العرب بعنوان: «القصيدة العربية المعاصرة المتكاملة».
(27) موريه، س: الشعر العربي الحديث (1800ـ 1970) –تطوّر أشكاله وموضوعاته بتأثير الأدب الغربي، تر. د. شفيع السيّد و د. سعد مصلوح، دار الفكر العربي، القاهرة، 1986م، ص 159.
(28) المرجع نفسه، ص 226.
(29) المرجع نفسه، ص 283.
(30) رسائل الشابي (إعداد محمد الحليوي)، منشورات دار المغرب العربي، تونس، ط1، 1966م، والرسالة بتاريخ 22 فيفري 1933م – ص ص 101ـ 102.
(31) انظر: أبو شادي، أحمد زكي، على هامش كتاب الشابي، الأديب، س12، ع8، آب 1953م، ص 48، وأبو شادي، د. أحمد زكي: قضايا الشعر المعاصر، دار الكتاب العربي، مصر، 1959، ص 120، وكرّو، أبو القاسم محمد: آثار الشابي وصداه في الشرق، مطابع دار الغندور، بيروت، ط1، 1961م، ص 15.
(32) انظر: كرّو، أبو القاسم محمد: الشابي، مطبعة دار الكتب، بيروت، ط2، 1954م، ص 74، وكرّو، أبو القاسم محمد: كفاح الشابي، مطبعة الترقي، تونس، ط2، 1957م، ص 89، والتليسي، خليفة محمد: الشابي وجبران، دار الثقافة، بيروت، ط2، الصفحات 47 و 54 و 56 و 58ـ 59 وسواها.
(33) انظر: الجندي، د. درويش: الرمزية في الأدب العربي، مطبعة الرسالة، مصر، 1958م، ص ص 430ـ 431، والناعوري، عيسى: أدباء من الشرق والغرب، منشورات عويدات، بيروت، ط1، 1966م، الصفحات 14 و 74ـ 75.
(34) انظر: التليسي: الشابي وجبران، الصفحات 39 و 44 و 242.
(35) المرجع السابق، ص 190، وكرّو: آثار الشابي، ص 15.
(36) انظر: التليسي: الشابي وجبران، ص219.
(37) المجموعة العربية، دار صادر، بيروت، ص 362.
(38) ديوان أبي القاسم الشابي، دار العودة، بيروت، 1972م، ص ص 373ـ 374، وانظر قصيدته «الغاب» ص 460 وما بعدها.
(39) نقلاً عن محمد غنيمي هلال: الأدب المقارن، ص ص 17ـ 18.
(40) المجموعة العربية، ص 555.
(41) فايسشتاين، أولريش: التأثير والتقليد، تر. مصطفى ماهر، فصول، م3، ع3، إبريل ـ  يونية، 1983م، ص 19، وانظر: فليتشر، جون: نقد المقارنة، تر. نجلاء الحديدي، فصول، م3، ع3، 1983 م، ص 63.
(42) انظر: أدونيس: سانـ  جون بيرس وأنا، مواقف، س 7، ع 29، 1974م.
(43) ديوان بدر شاكر السياب، دار العودة بيروت، 1971م، ص 255.
(44) فايسشتاين: التأثير والتقليد، ص 19.
(45) للتوسع انظر: سلامة، د. نبيل جورج: التراث الشفوي في الشرق الأدنى ومنهجية حمايته، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1986م.
(46) الأدب المقارن، ص ص 16ـ 17.
(47) ويليك، رينيه: مفاهيم نقدية، تر. د. محمد عصفور، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، شباط، 1987م، ص ص 330ـ 331.
(48) أقام الدكتور داود سلوم الباب الثاني من كتابه «دراسات في الأدب المقارن التطبيقي» على الأثر العربي في الآداب العالمية، فتحدث عن أثر اللغة العربية في اللغات الأجنبية، وأثر ألف ليلة وليلة في الأدب الإنكليزي في القرن التاسع عشر، وحكايات التراث العربية وأثرها في القصص الشعبية الهندية، والأثر العربي والإسلامي في كتاب «الديوان الشرقي» لغوته... الخ (ص ص 41ـ 216).
(49) منصور، مناف: مدخل إلى الأدب المقارن، ص 120.
(50) المرجع نفسه، ص 121.
(51) انظر دراستنا: التناص والأجناسية في النّص الشعري المعاصر، الموقف الأدبي، ع 305، س 26 أيلول 1996م، ص 81.
(52) بلوك، هاسكل: مفهوم التأثير في الأدب المقارن، ضمن كتاب «دراسات في الأدب المقارن»، تر. د. محمد الخزعلي، مؤسسة حمادة، إربد، الأردن، 1995م، ص 47.
(53) صالح، د. عبد المطلب: مباحث في الأدب المقارن، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1987م، ص 94.