أرسطو : حول الاستعارة
ر وي هاريس Roy Harris
تالبوت جي تايلور Talbot J. Taylor
ترجمة: أ. باقر جاسم محمد
" تكمن الاستعارة في إعطاء الشيء اسما يعود على شيء آخر، والتحويل قد يكون من الجنس (genius) للنوع (species) أو من النوع للجنس، أو من النوع للنوع أو على أسس من القياس. "
(فن الشعر 21)
إن مفهوم أرسطو للاستعارة قد أرسي بوضوح على أساس من مفهوم سقراط للأسماء. فالاسم إنما هو كلمة (تعود على) شيء ما أو شخص ما. والمناظرة التي أدارها سقراط في محاورة أرسطو (كراتيلوس) إنما هي مناظرة حول كيف أن الأسماء تعود على الأشياء و "الأشخاص" و"الأفعال" و"الخصائص" ...الخ التي ترتبط بها على نحو لا انفصال فيه (استنادا إلى كراتيلوس، فإن الأسماء تختص بالطبيعة بماهيتها وما ترتبط به، بينما يذهب هيرموجينز إلى أن الأسماء تختص بالاصطلاح والتقليد وحسب.) وتعريف أرسطو للاستعارة يحاذي هذه المسألة الخلافية، ثم يرسي المضمون بتعريف الاستعارة على أنها تحويل الاسم إلى شيء لم يكن مختصا به. وهذا التعريف لا يكاد ينجز دلالة ما بدون افتراض سقراط أن الأسماء قادرة (إما بالطبيعة أو بالاصطلاح) أن تختص بشيء أو آخر في المقام الأول. وعلى هذا النحو فإن الاستعارة يتم تشخيصها في الحال على أنها حالة ((استثنائية) تنطوي على انتهاك أو إبطال للرابطة المتبادلة المعيارية التي تحكم الاستعمال العادي للكلمات [1] ومن المهم ملاحظة أن أرسطو يناقش الاستعارة بوصفها خصيصة من خصائص الشعر ، وكما لو كانت ليست جزءا من اللغة العادية. إن الأسباب الكامنة في معالجة أرسطو للاستعارة بهذه الطريقة ترتبط بشكل وثيق بفلسفته للغة التي تختلف في جوانب حاسمة عن فلسفة أفلاطون.
إن أرسطو (384-322 ق.م) هو الأكثر تميزا من تلاميذ أفلاطون . وقد كان ابنا لطبيب وعلى الأرجح بدأ بدراسة الطب. وإذا كان الأمر كذلك فإن هذا يوضح على نحو جيد، إلى حد ما، الاختلاف المميز بين فلسفته وفلسفة أفلاطون: فالتشديد الأعظم لديه هو على موضوعات وتفاصيل معينة، وتفضيل الحلول العملية، والاعتماد على الملاحظة التجريبية. (لا شيء عند أفلاطون ، مثلا، يجاري الوصف الدقيق والمفصل الذي قدمه أرسطو في كتابه (تاريخ الحيوان) (Historia animalium) حيث أورد وصفا يتابع التطور الجنيني لفرخ الدجاج في البيضة يوما بعد يوم في طور الحضانة) إن هذه الخصائص الواقعية، فضلا عن أفق معرفته الموسوعي، ربما توضح من ناحية أخرى لم قد اختير أرسطو من قبل فيليب المقدوني لتربية ابنه الذي سيعرف مستقبلا باسم الاسكندر الأكبر. و في العام 335 ق.م عاد أرسطو إلى أثينا وافتتح مدرسته الخاصة في الليسيوم وقام بالتدريس هناك لمدة اثني عشر عاما.
وقد اعتبره خصوم الاسكندر السياسيون الناصح المخلص للفاتح على الرغم من أن العلاقات بين الرجلين لم تكن سهلة قط. ولقد لوحظ أن الاسكندر حقق نجاحا أعظم مع بوسفالوس( حصانه غير المروض الذي نال شهرة واسعة ) من ذلك النجاح الذي حققه أرسطو مع الاسكندر . و على أية حال ، فعندما توفي الاسكندر في العام 323 ق.م. ، لم يعد بمستطاع أرسطو أن يعتمد على الحماية السياسية وتقاعد بحصافة. و مات في العام اللاحق، وهناك احتمال أن ذلك تم على يده هو نفسه. ولقد عاشت أعماله بشكل أقل إقناعا من تلك التي أنجزها أفلاطون. وهي أعمال يعتورها النقص الظاهر الملحوظ. وهي ملغزة بكثير من المشكلات النصية. و لقد كان هنالك اقتراح أن ما بقي حيا أنما هو، ببساطة، نسخة من الملاحظات التي دونها طلابه على محاضراته. و لكن ذلك لم يمنع من الإقرار (المزعوم) لأرسطو بأنه يحوز سلطة مهيبة في الفلسفة الغربية لمدة ألف عام أو يزيد.
إن موقف نظرية أرسطو الأساسية حول اللغة واضح بما فيه الكفاية.
(( الكلمات المنطوقة إنما هي رموز أو علامات لعواطف وانفعالات النفس، أما الكلمات المكتوبة فهي علامات تدل على الكلمات المنطوقة. و كما هو حال الكتابة، فأن الكلام ليس متماثلا لدى جميع البشر. ولكن تلك العواطف و المشاعر العقلية نفسها، التي تكون هذه العلامات دلالات أساسية عليها، إنما هي متماثلة للجنس البشري جميعه، كما هو الحال كذلك مع الأشياء التي تكون هذه المشاعر والعواطف تمثيلات أو متشابهات أو صور أو نسخ لها ))
(الشرح 1)
إن من الصعب أن يقدم المرء خلاصة أكثر اختصارا ولكن في الوقت نفسه أكثر جلاء ووضوحا لنظرية شاملة للغة من هذا التصريح الذي يرد في بداية (الشرح) تماما، ويعتذر أرسطو للاختصار الشديد للتصريح قائلا أنه قد تناول هذه القضايا سابقا. "وفي بحثي الذي يتعلق بالنفس"، فماذا كان المقصود بذلك (De Anima) ، فإن كل ما يستطيع المرء قوله هو أن النص كما وصلنا عبر القرون لا يحتوي مناقشة مثل هذه. و كذلك أن أيا من أعمال أرسطو التي قد بقيت لم يكن قد كرس على نحو واضح للغة في حد ذاتها.
إن هذه الثغرة الواضحة تستدعي تعليقا. في الحقيقة لكي نعدها ثغرة حقا يعني أننا يجب أن نراجع حالا الفكر الأرسطي من خلال المنظورات الحديثة. و النقطة الأولى التي يجب أن ندركها أن أرسطو إنما يقدم حقا ما يراه من تحليل مفصل لكيفية عمل اللغة، ولكن هذا التحليل هو ما ندعوه الآن بـ" المنطق" . فاللغة بالنسبة لأرسطو إنما هي ببساطة مظهر للوغوس (logos) الذي هو القدرة العقلية المميزة التي تجعل من الإنسان (حيوانا عاقلا) . أما أولئك الذين يتفجعون على الفقدان المزعوم لبحث أرسطي كامل حول اللغة فهم في الأغلب المؤكد إنما يندبون اختفاء شيء لم يكن له وجود قط.
وهذا ينشئ معنى جيدا ومتكاملا حالما ندرك أن أرسطو، خلافا لأفلاطون، قد كان اصطلاحيا متشددا فيما يتعلق بالكلمات. فهو لم يكن يعتقد بالتعاليم الأفلاطونية أو "الأشكال" ، "الأفكار"] المثل [الخالدة التي هي أساسية في الفكر والكلام الإنساني . فهو يعتقد أنه ليس ثمة وجود للون "أحمر" علاوة على الأشياء الحمر التي تستطيع عيوننا أن تبصرها، وأنه لا وجود لنموذج أعلى لـ "الحصان" وإنما فقط أحصنة محددة بأعيانها. وهذا يستتبع أن الكثير من النقاشات التي كان قد سمعها بوصفه تلميذا في أكاديمية أفلاطون قد صدمته (ما لم يكن في تلك المرحلة من عمله مازال تحت تأثير أفلاطون إلى حد بعيد) بوصفها مناظرات تافهة تماما حول تجريدات لا قيمة لها. فهو كان قد تعلم من والده الطبيب أن النظرية شيء فسيح جدا، ولكن في الحياة الواقعية فإن الصحة والمرض فقط هي ما يؤثر في حياة الناس بوصفهم أشخاصا معينين. وأن الأمراض التي يجب أن تعالج تحدث في حالات فردية معينة. والطب في نهاية المطاف يدور حول الحالات المحددة وليس حول التعميمات. قد تكون التعميمات حقا مفيدة ولكن الاختبار النهائي لمقدار فائدتها إنما هو تطبيقها على أمثلة معينة.
إذا كان هذا تقويما عادلا للمزاج العقلي عند أرسطو، فإن بمستطاع المرء أن يفترض أن نمط التأملات الباحثة في أصول الألفاظ التي شغلت الجزء الأكبر من عمل أفلاطون (كراتيلوس) قد عدت من قبل أرسطو أمورا غير ذات صلة لأي فهم عام للغة يمكن أن تكون له فائدة ما على الإطلاق . فإذا ما جادل شخص أن سقراط قد أدين وحكم عليه بالموت فإن ما يهم ليس أصل اسم (سقراط) أو أن والديه قد منحاه الاسم الصحيح، ولكن كيف وصل الأمر إلى أن سقراط يجب أن يموت. وسواء أخذنا بنظر الاعتبار وجهة نظر الرجل المدان، أو وجهة نظر الأشخاص الذين اتهموه حول الاسم الذي أعطي لسقراط عند الولادة، فإن ذلك لن يؤدي إلى أدنى درجة من الاختلاف.فلم يجادل أي شخص قط فيما إذا كان ذنب سقراط أو براءته لهما أية علاقة في كونه يدعى سقراط. وسيظل الحكم بإدانته قائما مهما كان اسمه. إن هذا الاتجاه الفكري يؤدي بوضوح إلى اصطلاحية السنية تختلف على نحو دقيق عن الاصطلاحية التي دافع عنها هيرموجينز في محاورة أفلاطون.
إن الاختلاف المنوه عنه أعلاه ذو وجهين: فعلى أحد المستويات، فإنه يتجاهل شروط المناظرة بين كراتيلوس وهيرموجينز كافة. لأن المسألة لم تعد فيما إذا كانت صحة الاسم تتحدد بوساطة الطبيعة أو القرار الإنساني لأن ذلك لن يحدث فرقا. و من ناحية ثانية، وعلى المستوى الآخر فإن مسألة مستوى صحة السماء تعود إلى الظهور بوصفها قضية حول هوية الفرد أو الأفراد الذين تمت تسميتهم على هذا النحو. إن ما يهم، فيما يتعلق بإدانة سقراط، هو أن الاسم "سقراط" لا يجب أن يسبب مشكلة حول الهوية المغلوطة. فالشخص الذي يشرب كامل شراب الشوكران[2] في نهاية المطاف يجب أن يكون "نفسه" الذي أدين في المحكمة. وفي هذه النقطة بالذات تفترق اصطلاحية أرسطو عن اصطلاحية هيرموجينز.
إن كل ما يهم أرسطو أنه بطريقة ما يجب أن يكون هنالك توكيد أن الاسم "سقراط" يحدد هوية الذات الفردية نفسها في مناسبتين: الفرد الذي أدين والفرد الذي شرب السم نتيجة لذلك لأننا فقط حينئذ نستطيع أن نقول حقا: " لقد حكم على سقراط بالموت ثم أعدم" . وإذا لم نستطع أن ننشئ تلك العبارة الحقيقية فاللغة تنهار أو أن ينهار فهمنا لما قد قيل (الذي يرقى إلى الأمر نفسه). وهكذا فمن وجهة نظر أرسطية ، فإن هذه هي أول مسألة حول اللغة. وهي لا علاقة لها بأصول الألفاظ أو قرابتها من الطبيعة . كما أنها غير ذات علاقة بتحديد أنه بمعنى ما فإن الشخص المدعو سقراط الذي أدين هو سقراط آخر مختلف عن ذلك الذي شرب الشوكران (فالأخير أكبر عمرا من الأول، وربما كان رجلا أكثر حكمة أيضا). وفي هذه الصيغة المفترضة للمسألة، ليس ثمة مجال ببساطة لمناظرة هيرموجينز القائلة بأن الاسم يمكن أن يغير اختياريا بوساطة نزوة فردية. فقد كان يمكن أن يستفيد سقراط ، لا شيء سوى ، محاولة التملص من الحكم بالموت بوساطة تغير اسمه.
و بناء على ما سبق، فإن علينا أولا أن نفهم ما يضمن ثبات الاسم. و هذا ما يجب أن يكون ثباتا منيعا لا يتأثر بأهواء الفرد ونزواته حول تغيير الاسم. فالأصل في هذا الثبات، بالنسبة لأرسطو، هو – ولا يمكن أن يكون شيئا آخر سوى- التقليد: ولكن التقليد لا يفهم هنا على أنه قرار اعتباطي بتبني اسم دون آخر، ولكن بوصفه جزءا من صيرورة اجتماعية متطورة ومتنامية بكل قوتها وزخمها الخاصين. إنه زخم هذه الصيرورة الاجتماعية الذي يعطي في النهاية الوثوق بأن الرجل الذي شرب الشوكران هو الرجل الذي سبقت إدانته، وفي الوقت نفسه، فإنهما يمثلان الرجل المدعو سقراط. وإذا ما كان هنالك إخفاق للعدالة، فإن ذلك ليس بسبب شخص سقراط المغلوط، الذي مات، أو أن اللغة قد برهنت على عدم دقتها بأية طريقة أخرى في مساعدة الصيرورة الاجتماعية التي بدأت باللذين اتهموا سقراط . إن ذلك، بالنسبة لما يشغل أرسطو هو الآلية (mechanism) اللسانية التي نحتاجها للفهم . لأن ذلك، في الأقل أمر واقعي، بالمعنى العادي السائد هنا والآن للواقعية. وأي تعميم حول اللغة الذي يمكن أن يساعدنا في فهم هذه الآلية هو ليس تجريدا تكتنفه الأوهام، لأنه يحشد كل طاقاته لإيضاح المصير المحدد لذوات فردية بأعيانها مثل سقراط.
و إذا كانت عملية إعادة بناء تفكير أرسطو حول الأسماء هذه صحيحة إلى هذا الحد، فإنها قد تبدو غير ذات أصالة عميقة، ولكنها معنى شائع وبسيط لنمط أكثر اعتيادية. ولكننا يجب أن نحذر هنا من معاملة أرسطو باللاعدالة مرتين: في المقام الأول فإن ما يبدو لنا الآن مجرد معنى شائع إنما هو بلا شك كذلك في جانب منه لأن وجهة النظر الأرسطية للغة مندمجة ومتصلة ومتجذرة في التقاليد التعليمية الغربية التي شكلت افتراضاتنا الخاصة حوا ماهية المعنى اللساني الشائع، وإن رفض أرسطو لكونه مصدرا لوجهات النظر المبتذلة حول اللغة سيؤدي لأن نرتكب خطأ من الدرجة نفسها حين نتهم نيوتن بإنشاء أغنية ورقصة حول مبدأ الجاذبية الواضح لكل ريفي ساذج نال ضربة على رأسه من تفاحة ساقطة. وفي المقام الثاني، فإن أرسطو قد لاحظ رابطة تتضمن ثبات الأسماء وهو ما لم يلحظه مفكر سابق له، لقد رأى أن الضمانة التي تكفل أن حامل الاسم" سقراط " هو نفسه الشخص المدان بالإعدام وهو نفسه الشخص الذي شرب لاحقا الشوكران، و هي في الوقت عينه الضمانة التي تذيل صحة القياس المنطقي:
كل إنسان فان
سقراط فان
إذن سقراط إنسان
إن إدراك هذه الرابطة هو الأساس الذي أرسي عليه المنطق الأرسطي.
فالقياس المنطقي لا يعمل ما لم يكن سقراط المذكور في المقدمة الصغرى متطابق مع سقراط المذكور في النتيجة. فإذا كانا مختلفين فأن النتيجة باطلة. وعلى هذا النحو فإن الإدراك العقلي الإنساني يتطلب ثباتا مستقرا للأسماء الذي، في الأقل، لا ينهار بين سطر من القياس المنطقي وما يليه، لذلك فإن الاصطلاح الذي يكفل هذه الاستمرارية ليس هو "مجرد" عادة اجتماعية من مثل اتخاذ أسلوب محدد في الملبس أو اتباع دورة محددة من أيام الأعياد السنوية. إن اصطلاحات التسمية وثباتها واستقرارها ضرورة، إذ ما أريد للغة أن تكون تعبيرا عن اللوغوس والسلوك اللفظي البشري يجب أن يكون مختصا بكائن عاقل.
تصوّر أرسطو المنطق بوصفه وسيلة أو آلة تستخدم في كل فروع المعرفة البشرية، ومن ثم فإنها تأخذ أولوية على كل الحقول البحثية الأكثر تخصصا. إن هذه الرؤية للمنطق ، بوصفه أساسا محايدا وصالحا لكل الأغراض وشائعة في كل الأبحاث العقلية ، قد انتقلت إلى التقاليد التعليمية الغربية وقد انعكست في المكانة التي تعزى إلى المنطق في المقررات الدراسية العامة في الجامعات الأوربية. و في هذا المجال، يجب أن يحظى أرسطو ليس بشرف كونه أول فيلسوف يقوم بوضع الأسس المنهجية لعمليات التفكير الإنساني فحسب، ولكن أيضا، وبعمله هذا، لوضعه الخطط الأساسية للصرح الكامل للتعليم العالي في العالم الغربي. وما يهمنا هنا، على أية حال، هو ببساطة أن نتتبع التضمينات الألسنية لمكانة أرسطو الفكرية.
لقد كان الإغريقيون واعين تماما أن لغات مختلفة يجري التحدث بها في مختلف أرجاء العالم وأن اللغات تلك كانت تتغير تدريجيا عبر الزمن. ولكن ما يستتبع منطقيا من الاصطلاحية الأرسطية أنه ليس هناك الكثير مما يمكن الحصول عليه بوساطة دراسة الاختلاف اللغوي جغرافيا أو تاريخيا؛ إذ مهما كانت الأعراف التي ربما يتم اعتمادها بوساطة الجماعات المختلفة في مختلف الأزمان والأمكنة، فإن هذه الأعراف جميعا تخدم الأهداف نفسها تماما، وهي أن تعطينا الأساس لنطق و تلفظ الفكر العقلاني، وهي ، في الوقت عينه، أداة للتعبير عن تواصل الفكر الذي سيكون مدركا من أولئك الذين يشاركوننا الأعراف اللفظية ذاتها. وبهذا المعنى، فإنه ليس ثمة من أهمية أن الكلمة الإغريقية التي تعني " حصان" في الإغريقية القديمة أكثر مما يشكله من أهمية فيما إذا كان هيرموجينز يدعى هيرموجينز أو أي اسم آخر مختلف تماما. إن الشيء المهم ليس هو الأصوات، أو الحروف، التي يتألف منها الاسم، ولكنه الصلة بين الاسم وما يمثله. فالاختلاف بين الكلمة الإغريقية والكلمة الفارسية للحصان هي تماما مكافئة للحقيقة القائلة بأن ابن هكتور يدعى أحيانا "أسترياناكس" وأحيانا سكماندريوس. ولكن ابن هيكتور هو الشخص نفسه بصرف النظر عن أي من الأسماء يستعمل للإشارة إليه في أية حالة. وفي الواقع فإن المنطق الأرسطي إنما هو محاولة للبحث في اللغة ببساطة عبر تجريد الاختلافات اللفظية التي تفصل لغة عن أخرى.
إن اللغات المستقلة (مثل الإغريقية) تبرز إذن في المنظور الأرسطي على أنها أساسا رموز وتسميات، مجموعات من الأسماء التي يمكن بوساطتها أن يتم تحديد هوية مختلف الأشخاص، الأماكن ، والحيوانات والأجناس والخصائص والمزايا... الخ. وكذلك لقول شيء ما حولها. ولهذا الغرض فإن اسما واحدا يكون جيدا بمقدار أي اسم آخر بشرط أن يكون كل شخص واضحا حول كل اسم وما يمثله. فالاسم نفسه لا يترتب عليه أية نتائج: وأن أرسطو سيتفق بلا شك مع شكسبير بأن الزهرة ستظل تصوغ بذات العطر حتى ولو أسميناها بأي اسم آخر. وإذا ما كان ثمة أي شيء آخر يخص "صحة" الاسم كما يجادل كراتيلوس، فإن ذلك بالنسبة لأرسطو هو شيء لا نستطيع أن نضعه في الحسبان للأغراض الإنسانية الاعتيادية من استعمال الأسماء.
و فضلا عن ذلك فإن أرسطو ليس مهتما في تصنيف الكلمات واحتمالات ارتباطاتها بعيدا عن ما هو ضروري لشرح وتوضيح معناها في نطق و لفظ الفكر العقلاني. و من هنا فإن تصنيفاته كانت مبنية على أساس المعنى، كما هو الحال في المقطع الآتي المأخوذ من المقولات:
" إن أية كلمة أو تعبير غير مرتبط بسواه يعني أحد الأشياء الآتية: -ماذا (مادة)، كم الحجم (وهذا يعني الكمية) أي نوع أو شيء، (وهذا يعني الكيفية) بأي شيء يرتبط (أو العلاقة)، أين (وهذا هو المكان)، متى (أو الزمان) في أي موقف(الحالة، الموقع) ما هي الظروف الحافة (الوضعية واشتراطاتها) كم هو فعال وماذا يفعل (الحدث) كم هو متأثر، لم يعاني (التأثير).
( المقولات ) IV
إنه يقدم الأمثلة الآتية لمقولاته العشر حول التعبير. و بعضها يمكن أن يمثل في الإنجليزية بعبارة بدلا عن الكلمة (الإغريقية المفردة).
" الإنسان والحصان تعبيران عن المادة أو الجوهر، الذراعان طولا، الثلاثة أذرع طولا هي تعبير عن الكمية والمقدار. محافظ على قواعد النحو عن النوعية نصف وضعف وأكثر جسامة من العلاقة، وفي الوقت ، وفي الليسيوم عن المكان، أمس، في العام الماضي عن الزمان، ويضطجع أو يجلس عن الوضعية، هو منتعل حذاءا أو هو مسلح حول الحالة، يقع أو يحترق حول الحدث، ومقطوع ومحروق حول التأثير. "
إن هذه المقولات العشر للتعبير هي بالنسبة لأرسطو آجر البناء اللفظي التي يجب أن تستعمل في إنشاء أية عبارة بسيطة. إنه يزعم:
ليس أي من هذه المصطلحات، بحد ذاته، سينطوي على أية عبارة تامة. فالإثبات وكذلك الأفكار يمكن |أن يظهرا للوجود فقط عندما يتم ربط هذه المصطلحات أو توحيدها مع بعضها. فكل عبارة موجبة أو سالبة يمكن أن تكون إما صادقة أو كاذبة. و هذا يعني أنه في الأقل، أنها متاحة في كل مكان – ولكن كلمة أو تعبير غير مرتبط بسواه (مثلا، أبيض، يركض، أو يفتح بلادا) لا يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة.
ويجب أن يلاحظ أن مقولات أرسطو العشر ليست " أقسام الكلام " parts" of speech" بالمعنى الحديث الذي نتداوله لهذا المصطلح. و لكن ربما تكون " أجزاء الجملة" أو في الأقل لنوع الجملة التي تستعمل لإنشاء إفادة بسيطة "السمك يعوم" " لقد كانت تمطر هنا أمس" الخ.
ولقد استعار أرسطو أيضا من أفلاطون التمييز التقليدي بين "الاسم" (onoma) و"الخبر" (rhema)، ولكن مرة أخرى كان مهتما بهذا التمييز مبدئيا لكونه مفيدا في تحليل تركيب أو بنية الأقوال التي تحتمل الصدق أو الكذب والأقيسة المنطقية. وهذا يستتبع أنه وعلى الرغم من أن هذه المصطلحات توصف عادة على أنها "اسم" و"فعل" في الترجمة الإنجليزية لأرسطو فإن ذلك ينطوي على تضليل محتمل. فمثلا في "التفسير" نجد أن لفظة "onoma" قد عرفت على أنها لفظ له معنى مبني بوساطة العرف لوحده، ولكن ليس فيه إشارة من أي نوع إلى الزمن بينما ليس لأي من أجزائه معنى بعيدا عن الكل، وعرف الخبر على أنه لفظ لا يحمل معنى معينا فحسب ولكن فيه إشارة زمنية أيضا. ولا جزء له معنى بذاته أنه يؤشر دائما إلى أن شيئا ما قد قيل أو أؤكد حول شيء ما آخر.
(التفسير II-III)
من الواضح أن ما كان في ذهن أرسطو هنا ليس هو التفريق الحديث بين الاسم والفعل ولكن شيء أقرب كثيرا من ذلك التفريق بين أبسط أنواع المسند إليه subject (أو الموضوع) والمسند (أو المحمول). (ضحك جونJohn laughed)، أشرقت الشمس The sun shone والطيور تطير Birds fly ...الخ.]3[
وعلى أية حال فإن أرسطو لم يستنتج اختلافا واضحا بين الجمل sentences والأقوال utterances. فهو كان مهتما أكثر بالتمييز بين الجملة (القول ) وما يمكن أن يقال معها. وعلى هذا الأساس فإنه يعرف اللوغوس (الذي تحوله الترجمة الإنجليزية بشكل مفصل إلى "جملة ") على أنه الكلام الدال الذي يكون فيه هذا الجزء أو ذاك ذا معنى بوصفه شيئا ما، وبكلمة أخرى، ما يلفظ ولكن ليس على انه تعبير عن حكم لوصف إيجابي أو سلبي (التفسير IV). وكل لوغوس، كما يتابع، له معنى ليس بصفته أداة من أدوات الطبيعة ولكن، وكما لاحظنا، بوساطة العرف، وعلى أية حال ليس ممكنا أن يسمى كل شيء فرضا يحتمل الصدق والكذب في ذاته. فنحن نسمي، فرضا، تلك الأشياء التي تمتلك الصدق والكذب في ذاتها. وهنا، كما هو واضح ، فإنه يرغب في التفريق بين اللوغوس (القول) من مثل "دعنا نذهب إلى أثينا" الذي يعبر عن رغبة مجردة، و اللوغوس (القول) من مثل " ذهبنا إلى أثينا" الذي يعبر عن تقرير والذي بناءا على ذلك ، من وجهة نظره، يجب أن يكون إما صادقا أو كاذبا، ولكن لم يجسد متسعا للتفريق بين جملة (من مثل "ذهبنا إلى أثينا")، بكلمة أخرى أي بوصفها تشكيلا من الكلمات ليس صادقا أو كاذبا بحد ذاته، ولكنها تنطوي على إمكانية أن يجري استخدامها في مناسبات مختلفة من أناس مختلفين لإنشاء التوكيدات التي، واعتمادا على الظروف، ربما يحكم عليها بعد ذلك بالصدق أو الكذب. وإحدى الطرق لوضع ذلك بلغة حديثة هو القول أن أرسطو لم ير ضرورة للتفريق بين اللوغوس بوصفه جملة (أو بنية جملة) و اللوغوس بوصفه قولا أو تفوها ( أو بصفته رسالة تحتمل الصدق والكذب) ، أو بين اللوغوس بوصفه سمة مميزة و اللوغوس بوصفه علامة. وهذا يصدم القارئ الحديث لأن كل ما هو أكثر جدارة بالملاحظة في ذلك النص الأرسطي هو أنها "حافلة" بالأمثلة (بمعنى أن الجمل المكتوبة بين فوا رز مقلوبة أو بوساطة المدرس على السبورة إنما هي أمثلة ). إن الأمثلة اللسانية من هذا النوع مسلم بأنها تنطوي على معنى وإلا فإنه سيكون من الحماقة أن يتم إيرادها كأمثلة، ولكن ليس من الواضح أن الأمر يؤدي إلى كثير من المعنى إذا ما عزونا الصدق أو الكذب إلى الكلمات "ذهبنا إلى أثينا" عندما تكتب على اللوح في الفصل الدراسي؛ أو لحدث كتابتها، أو لأية فرضية ( ما هي هذه الفرضية؟) يزعم أنها تعبر عنها.
لم يقصر أرسطو مناقشته للكلمات على اللغات التي عدّت أداة للعقلانية، فقد أخذ أيضا بالحسبان اللغة بوصفها أداة إقناع، وبخاصة الإقناع الأدبي. إن وجهات النظر هذه قد هيمنت في الأبحاث حول البلاغة وفن الشعر . و العمل الأخير يحتوي على وصف أرسطو الأكثر تأثيرا للاستعارة، و لسوء الحظ، فإنه يحتوي أيضا، في النسخة التي وصلتنا، الكثير حول اللغة الذي هو ببساطة مشوش.
و القراءة المدققة للفصول الثلاثة في فن الشعر المكرسة للملاحظات العامة حول اللغة،نلاحظ أن الأول منها (الفصل 1) يرسم تمييزا واضحا بين مفردات اللغة(lexis) والفكر (dianoia) ويناقش أرسطو هنا، كيف يمكن للشاعر أن يمثل ما يحدث في عقل شخصية قصصية متخيلة.
" إن فكر الشخصيات القصصية المتخيلة توضح وتعرض في كل شيء لابد يتأثر بوساطة لغتهم في كل أمر يبرهن أو يدحض، لإثارة المشاعر ( الشفقة والخوف والغضب وما إلى ذلك)، أو لتضخيم أو تصغير الأشياء. ومن الواضح أيضا أن منهجها العقلي يجب أن يكون متناغما في اتجاه تأثيراتها، سواء رغبوا في إثارة الشفقة أو الرعب، أو إلقاء نظرة تنم عن الأهمية أو الاحتمالية. والاختلاف الوحيد هو أنه عند الأداء فإن الانطباع يجب أن يؤدى دونما توضيح أو شرح، بينما مع الكلمات الملفوظة يجب أن يقدم الأمر بوساطة المتحدث ويجب أن يكون نتيجة ناجمة عن كلماته. ما الذي يمكن أن يكون، في الحقيقة، جيدا في عطاء المتحدث، إذا بدت الأشياء في الصيغة المطلوبة حتى وإن استبعدنا أي شيء قد قاله؟ "
( فن الشعر19)
إن هذا السؤال الأخير يستدعي التساؤل الأكثر عمومية: ما هو الجيد في الكلام نفسه إذا كان بإمكاننا التواصل بالأفعال بدون الاستعانة بالكلمات؟ فمن الواضح أنه سيكون زائدا عن الحاجة. و لكن أرسطو لا يعتقد، وعلى نحو جلي، أن الأمر سيكون كذلك. إن هذا المقطع مهتم بإقامة ترابط وصلة مع تصور اللغة التي جرى تقديمه في بداية ( التفسـير ) . لأن أرسطو هاهنا في فن الشعر يفكر في المسألة نفسها في درجة واحدة: بكلمة أخرى، إنه ينظر إلى مشكلة الشاعر في تمثيل السلوك الإنساني بوساطة الكلمات والأفعال المسندة للشخصيات في القصيدة: إن وثاقة صلة هذا لا يمكن أن تفهم ما لم ندرك أن الشعر بالنسبة لأرسطو، إنما هو محاكاة متأصلة: وفضلا على ذلك فإنه الفن الوحيد الذي يحاكي بوساطة اللغة فحسب. لذالك نرى الشعر، و إذا جاز التعبير، اللغة قد ارتدت إلى جوهرها الوظيفي.
"الشعر الملحمي والمأساة، وكذلك الملهاة ، والشعر الحماسي وأغلب عزف الفلوت والقيثارة ينظر إليها في مجموعها على أنها صيغ محاكاة وتقليد. ولكنها في الوقت نفسه تختلف عن بعضها البعض في ثلاثة أمور، إما بوساطة الاختلاف في نوع الوسيلة، أو بالاختلافات في سبل إدراكها بالحواس أو في طريقة كل منها في المحاكاة "
وكما تستعمل الأشكال والألوان بوصفها وسيلة من البعض الذين (سواء أكان ذلك عبر الفن أو عبر التمرين الدائم) يحاكون ويصورون أشياء كثيرة اعتمادا على ما تقدمه من دعم، كالذي يستعمله آخرون، وكذا الأمر في مجموعة الفنون المذكورة أعلاه، والوسائل المستخدمة معها بمجموعها هي الإيقاع، اللغة والتناغم بين العناصر- وهي تستعمل عادة إما منفردة أو في مجاميع محددة، فاجتماع الإيقاع والتناغم لوحدهما هو الوسيلة في عزف الفلوت والقيثارة ، وأية فنون أخرى قد يمكن أن توصف على هذا الشاكلة مثل عزف المزمار المنطوي على محاكاة . فالإيقاع لوحده وبدون التناغم هو الوسيلة في محاكاة الراقص، لأنه حتى الراقص نفسه، وبوساطة الإيقاعات التي تبرزها أوضاع جسمه، ربما يمثل شخصيات الرجال وكذلك أيضا ما يقومون به وما يعانون منه. وهنالك فضلا عن كل هذا فن يحاكي بوساطة اللغة لوحدها، بدون تناغم، في النثر أو في النظم، وإذا ما كان الكلام عن النظم أما بشكل أحد البحور أو في مجموعها. إن هذا الشكل من المحاكاة لم يحز على تسمية إلى هذا اليوم.
(فن الشعر 1)
ويمضي أرسطو قدما في استهجان الاعتقاد الخاطئ الذي يجعل مصطلح الشعر (poetry) مقصورا على التأليف في النظم ليس غير ؛ وعلى هذا النحو يحجب المعيار الأكثر جوهرية الذي هو المحاكاة عبر اللغة . إن الغرض الأساسي للكلام بالنسبة لأرسطو، هو التعبير عما يدور في عقل المتكلم، ولكن ذلك يمكن أن يعبر عنه بصورة غير لفظية بوساطة الإشارات، النظرات، والأوضاع، و الحركات، الخ [4]. فما هي إذن العلاقة بين صيغ التعبير البديلة هذه ؟ و مما اخبرنا به في فن الشعر، يبدو أن الكلام والحدث يشتركان في العلاقة ذاتها مع الفكر أو (dianoia) نظرا لأن كليهما صيغتان من صيغ التجسيد فكلاهما يخلق مظهرا واضحا ومدركا ظاهريا ولذلك فهو قابل للتوصيل لما هو باطني وداخلي الذي سيضل خفيا وغير قابل للتوصيل بدون فعل الإظهار والتجسيد هذا . على أن أفعال الشخص يمكن أن تعبر عن الرجاء والخوف والشفقة والموافقة والرفض... الخ . و كذا الاستجابات المختلفة لتقديم الأحداث والظروف فإنه يبدو أن الحدث لا سبيل له ليعبر عن مقولة بسيطة. وهذا يتطلب الاستعانة باللغة. فإن لم يحتج الاتصال الإنساني إلى الحقائق التي يجب أن يعبر عنها. فإذا لم يتطلب الاتصال الإنساني حقائق لكي يتم تبيانها كلاميا (بوصفها أمر متميزا عن نقل المواقف والانفعالات والاستجابات) ؟ فإن اللغة ستبدو في الحقيقة: أمرا نافلا ولا حاجة له. وهذا، ربما يستدل المرء منه، يفسر الانشغال الكامل لأرسطو وبشكل جلي، باللغة بوصفها أداة لإنجاز الجمل الخبرية المفيدة. ( لأنه أحد الأمور التي يمكن للغة أن تنجزه ولا يمكن للاتصال غير اللفظي أن يفعل ذلك).
إن الفصل العشرين من " فن الشعر " يميز ثمانية وحدات من المفردات المعجمية. وهي تشمل الحرف، المقطع ، أداة الربط (sundesnes) وأداة التعريف (arthron) الاسم، الفعل، الصيغة الاستفهامية (potesis)، والكلام (logos). إن هذا التصنيف المشوش قد كان هو عينه مصدر يأس الشارحين الذين، مع كل هذا، عاملوه بجدية بدلا من رفضه بوصفه موضوعا منحولا وزائفا كما قد يكون مستحقا لذلك. إن التعاريف والأمثلة المعطاة للوحدات الثمانية هي موضع نظر على عدة صعد ، كما أن علاقة عملية التحليل برمتها بفن وتقنيات الشعر هي غامضة تماما .
إن الفصل الحادي والعشرين، الذي يحاول أن يصنف الكلمات على أساس ما تتألف منه وعلى أساس الاستعمال والجنس، هو أقل اختلاطا و تشوشا . وهو بالتأكيد غير كامل في النسخة التي وصلتنا. و قد احتوى مع ذلك على التحليل الأرسطي الشهير للاستعارة التي توجد أسبابا نظرية وجيهة (أنظر ما يأتي) لقبولها على أنها أصيلة.
"الاستعارة تكمن في إعطاء الشيء اسما يعود على شيء آخر، والتحويل قد يكون من الجنس للنوع أو من النوع للجنس أو من النوع للنوع أو على أسس القياس ؛ والمنطق الذي من الجنس للنوع يمكن تمثيله في العبارة "هنا تقف سفينتي"(1) لأن الوقوف بالاستناد على المرساة إنما هو وقوف "لشيء ما محدد "
.أما ذلك النمط الذي من النوع للجنس فهو في المثال"في الحقيقة لقد أحدث يوليسيس عشرة آلاف مأثرة "(2) حيث أن "عشرة آلاف " الذي هو رقم محدد كبير. قد وضع بديلا من عبارة "عدد كبير " العامة والشاملة. أما ذلك الذي من الأنواع إلى الأنواع فهو في المثالين " يقد الحياة بالبرونز" و " يفصل الحياة بالبرونز الطويل البقاء" حيث يستخدم الشاعر لفظة "يقد" بمعنى يفصل وكلاهما تعنيان يقصي شيئا ما[3]. أما النوع الذي يستمد من القياس فهو ممكن حينما تكون هنالك أربع مصطلحات متصلة الدلالة ببعضها إلى الحد الذي يكون فيه الثاني بالنسبة للأول مثل الرابع بالنسبة للثالث، لأن بإمكان المرء ، استنادا إلى ذلك، أن يستبدل مستعيرا الرابع بدلا من الثاني أو الثاني بدل الرابع. وأحيانا فإنهما يكفيان الاستعارة بأن يضيفا إليها ذلك الشيء الذي حلت محله الكلمة بوصفه أمرا نسبيا أيضا . وهكذا فإن الكأس لها علاقة بـ "ديونزيوس" كما هو الحال الدرع بالنسبة لآريس (4). وإذا ما أخذنا مثالا آخر، كما هو التقدم بالعمر بالنسبة للحياة، كذلك هو الحال المساء بالنسبة للنهار واستنادا إلى ذلك يستطيع المرء أن يصنف المساء على انه أرذل عمر النهار –أو بوساطة المكافيء الأمبادوكليسي(5)- وأرذل العمر على أنه مساء أو مغيب شمس الحياة. وربما يكون ممكنا أن بعض المصطلحات المتعالقة على هذا النحو ليست أسماء مختصة بها، ولكن نظرا لذلك فإنها ستوصف مجازيا بالطريقة نفسها تماما. وعلى هذا النحو فإن تصورنا لمستقبل بذرة القمح يدعى زرعا، ولكن تصورنا للشهب الذي تنتجه، كما هو حال الشمس ليس له اسم. وهذا الحدث الذي لا اسم له ،على أية حال يمثل العلاقة نفسها تماما مع موضوعها "ضوء الشمس" كما هو حال بذرة القمح، ومن هنا جاء تعبير الشاعر " الزرع حول الوهج الإلهي التخليق "(6) وهنالك صيغة أخرى لتحديد الاستعارة:إذ بوساطة إعطاء الشيء اسما مغايرا، ربما يستطيع المرء أن يجحد إحدى مزايا الشيء المرتبطة طبيعيا باسمه الجديد وذلك بفضل الإضافة السلبية. ومثال هذا قد يكون أن نسمي الدرع ليس "كأس أريس" كما في الحالة السابقة، ولكن" الكأس التي لا تحمل خمرا ".
(فن الشعر 21)
إن هذه الفقرة تستحق الاهتمام لعدد من الأسباب، ليس أقلها التحليل اللساني التجريبي، الذي قدم كاستجابة للحاجة إلى الانسجام والتماسك النظريين. لا يبدو أرسطو هنا قريبا من أي تصور أقدم للاستعارة. والأمثلة التي اقتبسها قد جاءت جميعا من الشعر الذي عرفه. باختصار فإنه حاول أن يوضح الحقيقة. و هو ما يلحظ في البرهان المستمد من الاستعمال الشعري، أنه في بعض الحالات نجد أن بعض الكلمات قابلة للإدراك على نحو ممتاز حتى عندما لا تكون مستعملة في معانيها الاصطلاحية المتعارف عليها. و بوصفه اصطلاحيا، فقد كان أرسطو ملزما أدبيا في أن يرى هذا على أنه دليل مضاد لوجهة نظره حول اللغة. ولذلك فقد كان تواقا لإعطائه تفسيرا جانبيا عبر إقامة نظرية للتحويل الدلالي وهو يزعم، نتيجة لذلك، أن المعاني يمكن أن تنتقل من كلمة إلى أخرى دونما تأسيس لتقليد اصطلاحي خاص، " شرط أن" تقوم أنماط علاقة منتظمة ومحددة بين الكلمات موضع النظر. ولقد تمكن من إنجاز ذلك عبر اختصار كل الاستعارات إلى الاعتماد إما على العلاقة بين النوع والجنس، أو على علاقة التناسب. ولن يهمنا هاهنا فيما إذا كان هذا الاختصار ناجحا: فالتاريخ اللاحق للجدل حول الاستعارة منذ القدم وإلى الوقت الراهن يثبت تماما أن اختصار أرسطو مفتوح للسؤال. و الأمر الأكثر ارتباطا بغاياتنا الحالية هو أن نأخذ بعين الاعتبار فيما إذا كانت نظرية أرسطو، حتى إذا كانت قد نجحت في تغطية كل الأنماط المقررة للاستعارة، لا تتعارض مع ذلك مع تفسيره الاصطلاحي الأساسي للمعنى.
وهذا سيجعلنا نستعيد مرة أخرى النظرية التي تم تحديد ملامحها في بداية كتاب " التفسـير " حيث اتخذ أرسطو موقفا يختلف عن موقف أفلاطون في جانبين. فأولا : لقد تخلى عن الهيئات والأشكال ]المثل[ الأفلاطونية الخالدة بوصفها المنابع النهائية للمعرفة والمعنى، وافترض أن العالم الواقعي المباشر، كما تلقته حواسنا، هو الذي يزودنا بنماذج الأشياء التي نتحدث عنها. ولكنه، قبل الفكرة القائلة أن العلاقة بين الكلمات والعالم الواقعي إنما هي فقط علاقة غير مباشرة: إنها وسيلة ووساطة عبر العقل الإنساني. وثانيا: على الرغم من أنه يتفق مع أفلاطون من أن العقل يخزن مماثلات، الأشياء التي نعيها عن طريق الحواس، فإنه لا يوافق على انه هنالك أية علاقة تنكرية أو محاكاتية بين هذه المماثلات والكلمات التي تمثلها. فهذه العلاقة الأخيرة إنما هي علاقة اصطلاحية صرفة. وعلى هذه الشاكلة فإنه يؤكد موردا الحجج الآتية (i) أن الكلمة هي نفسها لكل ما يكمن فيها (ii) أن التمثيل الذهني للعالم هو ذاته لكل ما يكمن فيه من ولكن (iii) اللغة هي ليس نفسها "لأنها" اصطلاحية ؛ ولأن مختلف الجماعات تمتلك أعراف ]لغوية [ مختلفة. وما ذلك إلا لأن إحساس كل إنسان بالعالم هو نفسه، ولكن هذا يستلزم أن الناس سيفهمون كلام بعضهم بعضا فقط فيما إذا أقاموا كلامهم على أساس من اللغة الاصطلاحية نفسها ]الشفرة المشتركة [.
الاختلاف في الأعراف اللفظية هو ما يمكن أن يمنع التواصل الكوني وليس هنالك من عائق آخر أو من منشأ للصعوبة. لذلك فإن الطبيعة الاصطلاحية للغة، بالنسبة لأرسطو هي ما يوضح في الوقت نفسه أمرين معا : لماذا تفهم الناس الذين يتكلمون لغتنا الخاصة، وكذلك لماذا لا تفهم الناس الذين يتكلمون لغة أجنبية، على الرغم من |أنهم يتحدثون من أجل أداء معاني محددة وبصورة صحيحة. ومن الواضح أن أرسطو يفترض مسبقا أن الاتصال هو عابر للأذهان. باختصار إن الكلمات تحول الأفكار من عقل شخص ما إلى عقل شخص آخر لأنها - وبقدر ما - مرتبطة بالأفكار نفسها في كلا العقلين وهذا هو بالضبط دور العرف والاصطلاح ؛ أن ينشأ في عقل المرء ترابطات بين الكلمات والأفكار. فالكلمات، يخبرنا كتاب التفسير، هي علامات أو رموز لـ "تأثرات" النفس، (أعني ما هو مخزون في العقل)، بينما تأثرات النفس، ليست علامات أو رموز في العالم الواقعي، ولكنها نسخ منها (على الرغم من أنها نسخ طبيعية، ولذلك فهي متطابقة بالنسبة للجنس البشري كافة). لذا فإن السلسلة التي تربط الكلمات بالعالم هي ما قسمه أرسطو إلى قسمين. هنالك قسم للصيرورات الطبيعية الكونية(التي تربط العالم عبر تلقينا الحسي إلى التمثيلات العقلية للعالم)، وهنالك قسم للصيرورات الاصطلاحية غير الكونية التي تربط التمثيلات العقلية باللغة.
والاستعارة ظاهرة تهدد هذه الصورة للأسباب الآتية: إن الشاعر لا يحتاج أن يعطينا أي تحذير مسبق لأنه ينوي أن يستخدم مصطلحا ما على نحو مجازي ومع ذلك فحينما يشير إلى درع ديونزيوس، فإننا نفهم أن الشيء موضع البحث إنما هو الكأس. والنزعة الاصطلاحية غير المصقولة جيدا هي تلك المرتبكة والمترددة في إيضاح هذا لأنه ليس ثمة اصطلاح أو عرف يربط كلمة درع بالكؤوس لذلك فإن الشخص الاصطلاحي الصارم، كما يبدو، سيجبر على أن يتخذ موقفا يزعم فيه أنه بوساطة الإشارة إلى كأس ديونزيوس على أنه درع فإن ذلك يؤسس ما يفيد بأن كلمة "درع" قد اكتسبت معنى جديدا ، ولكن هذا شرح للمسألة غير معقول أو جدير بالتصديق تماما . و هو أيضا يمثل هزيمة ذاتية للاتجاه الاصطلاحي أيضا لأنه نتيجة لذلك سيبدو أن أي استعمال جديد لكلمة ما سيتم إقراره بوضوح اصطلاحيا. لقد حاول أرسطو تجنب هذا بالزعم بأن التحويل في المعنى ممكن فقط في حالة قيام علاقات مفهومية محدودة بين المفردات المرتبط بعملية التحويل. ولكن حتى هذا التنازل المسلم به لن يحدد وضع الشخص الاصطلاحي، وهو ينجز ذلك استنادا إلى تصورين في الأقل . أولا أن العلاقات المفهومية تحتكم في إثبات صدقية الاستعارة هي نفسها ليست اصطلاحية ؛ بمعنى لا أحد قد أرسى أساسا اصطلاحيا لغويا عاما يكون ممكنا بوساطته أن يتحول استعمال الاصطلاح النوعي إلى نظيره الاجناسي... الخ . لذلك فإن الآلية موضع البحث يجب أن تكون آلية طبيعية، و ليست اصطلاحية من نوع ما. ثانيا: إذا ما تضمنت التحويلات في المعنى علاقات واسعة وحاضرة ومحسوبة في الظاهرة كلها إلى هذا الحد فإن من الصعوبة أن نرى كيف يقدم الاتجاه الاصطلاحي أي تفسير مقنع للكيفية التي يفهم فيها بعضنا بعضا. بكلمة أخرى ، إذا كانت كلمة حصان ترمز ليس فقط للحصان وإنما أيضا أي عنصر من مجموعة غير محدودة العدد من الأشياء التي يمكن أن تمثل في علاقة مجازية مع الخيول ، أو مع حصان بعينه، فإن هذا يرقى إلى مستوى التصريح بأن "حد " الحصان، لا يحوز فقط معناه الاصطلاحي المتعارف عليه ولكنه يحوز أيضا معاني أخرى كثيرة غير اصطلاحية . أما كيف يحدد السامعون أي معنى يصطفون في هذا الإفراط في أوجه المعنى فإنه يصبح معضلة. إن أرسطو لا يعطي أي توضيح للكيفية التي يمكننا عبرها أن نعرف إن كانت كلمة ما مستعملة بمعنى محول أم لا. إن هذه المشكلات في نهاية المطاف، لا تزعج طلاب و أتباع أرسطو؛ ولكن هذا كان بسبب من أنهم، مثل أرسطو، قد فشلوا في أن يروا إلى أي مدى أن الاستعارة هي ببساطة مثال واحد لظاهرة أكثر شيوعا في اللغة، و هي الظاهرة الأكثر عموما التي فشلت الاصطلاحية في تقديم تفسير مقنع لها، ألا وهي التناظر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. ترد هذه الاستعارة مرتين في" الأوديسا " لهوميروس.
2. الاقتباس من الإلياذة الفصل 2 السطر 272.
3. المثال الذي أكتنفه الغموض كما جاء في الاقتباس ربما يكون من أمبادوكليس .
4. ديونزيوس هو إله الخمر وهو يصور عادة حاملا كأسا؛ , و أريس هو إله الحرب و يصور حاملا درعا.
5. الاقتباس من أمبادوكليس مفقود .
6. الشاعر الذي أقتبس منه النص غير معروف.
:إشارات و ملاحظات المترجم
[1]إن الفحص العلمي الدقيق للغة العادية يظهر أنها لا تخلو من انتهاكات للعرف و الاصطلاح .
[2] الشوكران نبات يستخرج منه شراب سام و كان يستخدم في تنفيذ حكم الإعدام في أثينا القديمة.
[3] إن الصيغة الأساسية للجملة العربية تكون بوضع الفعل في البداية. فالعربية هي من التي يعبر عن الجملة فيها بالصيغة : vso حيث يكون الحرفv رمزا للفعل و الحرفS رمزا للفاعل و الحرف O رمزا للمفعول به ؛ بينما الإنجليزية هي من اللغات التي تكون صيغة الجملة فيها هي:SVO . و يلحظ هنا اختلاف في موقع المسند و المسند إليه في الجملتين العربية و الإنجليزية.
[4] تعرف عملية الاتصال عبر استعمال إشارات اليدين و الوجه اصطلاحيا ب kinetics وهو مصطلح يعني في السيميوطيقا الاستعمال النسقي لتعبيرات الوجه و إشارات الجسم لتوصيل معنى ما و خصوصا حين يرتبط ذلك باللغة الملفوظة حين تقلب ابتسامة أو تقطيبة معنى جملة ما إلى الضد
هذه ترجمة للفصل الثاني من كتاب :
“ Land Marks in Linguistic Thought: The Western Tradition from Socrates to Saussure " (1989)By: Roy Harris and Talbot J.Taylor. Routledge and kegan .London.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق