Ads 468x60px

الجمعة، 24 ديسمبر 2010

اتجاهات الخطاب للاستاذ الدكتور عبدالواسع الحميري


وقد حاول الباحث في هذه الدّّراسة المعمّقة أن يرصد ملامح أزمتين؛ لازمت أولاهما حركة النّقد العربيّ القديم منذ لحظة الولادة الأولى, لترافقه طوال مسيرة حياته حتى مطلع عصر النّهضة, ولازمت ثانيتهما النّقد العربيّ الحديث أو المعاصر منذ منتصف ستينيّات القرن الماضي-على الأقلّ-وظهور"تيّارات الحداثة" وما بات يسمّى بـ"ما بعد الحداثة" حتى يومنا هذا, وهما أزمتان يعتقد الباحث أنهما جديرتان بالتوقف عندهما, وبلورت ملامحهما؛ بحكم أنهما قد أسهمتا, بشكل فاعل, في تهميش دور النقد العربي, وتغييبه عن ساحة الفعل الثقافي الفاعل في الحياة الثقافية والإبداعية العربية.

وقد تمثلت الأزمة الأولى التي لازمت حركة النّقد العربيّ القديم-حسب اعتقاد الباحث-في أنّ هذا النّقد قد ظل يمثل, في جملته, طوال مراحل تطوره وازدهاره, ضرورة الفرد العربي؛ أكان الفرد الشاعر, أم الفرد الحاكم, أو صاحب السّلطة والجاه في المجتمع, ولم يكن هذا النقد- في أيّ يوم من الأيام- ضرورة المجموع أو المجتمع العربي, إلاّ في ما ندر, ووفق شروط خاصّة, لا تكاد تتحقّق, ما عنى للباحث أنّ الخطاب النّقديّ العربي (القديم) قد بقي- في جملته- مكرّسا طوال تاريخه في خدمة فكرتين, أو بالأحرى في ترسيخ ذائقتين, لا ثالث لهما: ذائقة"فرْدَنَة/ وحْشَنَة" الفرد العربي, وذائقة"قطْعَنة" المجموع العربيّ ولا شيء غير ذلك.

على أنه لا فرق في المحصلة النهائية-حسب تصور الباحث- بين الخطاب النقدي الذي يُفَرْدِن الفرد, أو يُسلْطِنه على المجموع, والخطاب الذي يُقَطْعِن باقي أفراد الجماعة التي ينتمي إليها الفرد؛ أكان الفرد المفرد (رمز السلطة السّياسية والاجتماعية) أم الفرد المتفرّد (المبدع الشّاعر بوصفه-في هذا الوعي رمز السّلطة البيانيّة)؛ فكلاهما يعدّ خطاب سلطة, في الأساس, وكلاهما يؤدّي الدّور نفسه في القمع وممارسة السّلطة, ويفضي, إلى النتيجة نفسها, وإن بطرائق مختلفة, من حيث إنّ كليهما يمارس قمع المجموع, ويصادر حقّ باقي الأفراد في أن يفكّروا بحريّة, وأن يعبّروا بحريّة, وإن تميّز الأوّل (خطاب الفردنة) عن الثّاني (= خطاب القطعنة), على الأقلّ, من حيث شكل السّلطة التي يمارسها على جمهور المتلقّي العربي, في أنّه يسلك طريقا إلى قطْعَنَة المجموع العربي, هي- بالضّرورة- طريق فرْدَنَة الفرد وتسليطه عليه؛ فهو إذن يسلك طريق الفرْدنة, بوصفها إحدى أهم آليّات القَطْعَنة, أو إحدى أهمّ الطّرق الموصلة إليها.

هذا عن الأزمة الأولى التي يعتقد الباحث أنّها قد لازمت حركة النّقد العربيّ قديما, وحاول-في القسم الأوّل من هذه الدراسة-الكشف عن أسبابها ومسبّباتها على مستوى بنية الفكر والثّقافة العربيّة, موضّحاً- في هذا السّياق- الفرق بين ما يمكن تسميته بـ"نسق التّفكير الكيانيّ" الذي ساد- ولا يزال ثقافتنا العربية- بوصفه-كما تجلّى للباحث-نسقاً كامناً خلف هذه الأزمة, وباعثاً عليها, وبين ما أسماه الناقد السعوديّ الكبير الدّكتور عبد الله الغذّامي بـ"نسق التّفكير الفحوليّ"بوصفه-حسب هذا النّاقد-النّسق الذي ساد في ثقافتنا العربيّة, وكان له الدّور الفعّال في صياغة وعينا الثّقافيّ والنّقديّ على السّواء. ليؤكّد الباحث في خاتمة القسم الأوّل من هذه الدراسة, بأنّه يمكن للنقد العربي تجاوز هذه الأزمة, وأن يشق طريقه في اتجاه آخرجديد, أسماه الباحث"اتجاه المَدْنَنَة/الحَضْرَنَة) وهو اتجاه سيمكنه, أو سيتمكن خلاله, من الإسهام في صياغة وعي جديد(نسق من التفكير جديد) يكون مزيجا من وعي الفَرْدَنَة ووعي القَطْعَنة, أو من نسق التفكير الكياني والكونيّ على السواء؛ ذلك لأنه لا يعقل-كما يعتقد الباحث- أن يكون البديل عن نسق التفكير الفرديّ المفرد أو المتفرّد (بوصفه نسق التفكير الفحولي الذي أدانه الغذامي, وحمله مسؤوليّة ما أصاب الشّخصيّة العربيّة من أمراض وعلل نسقيّة)- أن يكون البديل عن هذا النّسق- نسقَ التفكير الكيانيّ أو القطيعيّ, بل نسق التّفكيرّ المدني أو الحضاري؛ بوصفه نسقا للتفكير الكلّي أو التكاملي, أي الذي تتكامل فيه الأجزاء (الأفراد) المفكِّرة بعضها مع بعض, كي تشكّل كلّاً متكاملا, ولا تتبع فيه الأجزاء المفكِّرة جزءاً واحداً, أو طرفاً واحداً, يكون هو وحده الطّرف الفاعل, في حين تبقى الأطراف الأخرى منفعلة غير فاعلة, على نحو من شأنه أنه سيفضي- في نهاية المطاف- إلى إقامة علاقات متوازنة, ومتكاملة بين أطراف الفعل الثّقافيّ والإبداعي العربيّ, وقبل ذلك, بين أطراف العملية التواصليّة, فلا يطغى هذا الطّرف على ذاك, ولا يستلب هذا بشروط ذاك, فلا يلغي أيّ من الطّرفين المتفاعلين (الفرد والجماعة) حقّ الطّرف الآخر في الوجود المبدع الخلاق. وهذا يقتضي ألاّ يُستلب الفردُ بشروط المجموع, ولا يُستلب المجموعُ بشروط الفرد, بل يجب أن يتمتّع الفرد بحقّه في الوجود المختلف عن باقي أفراد الجماعة التي ينتمي إليها, لكن بما لا يؤدّي إلى إضعاف الجماعة, أو إلى مصادرة حقّها في التّفاعل والمشاركة, أي شريطة أن يعطى الفرد حقّه والجماعة حقّها, فيظهر تميّز دور الفرد في إطار المجموع, على نحو لا يؤدّي إلى ذوبان الفرد في المجموع, ولا إلى تسلّطه على المجموع, أو شخصنته.

وهو ما حدا الباحث إلى القول, في ختام هذه الفقرة من البحث: إنّه يمكن لفنّ النّقد, أن يصبح فنّاً منحازاً للفرد وللجماعة في آن؛ شريطة أن يتحرّر من ربقة التّبعيّة للجمالي, بوصفه: القول البلاغيّ, على ثلاثة صعد:

- على صعيد مجال مقاربته أوّلاً؛ فلا يبقى محصوراً- فقط- في إطار المفكّر فيه من قبل, أي في إطار الخطاب الجماليّ فقط, بل يجب أن يتجاوزه إلى اللّامفكّر فيه من قبل, أي إلى خطاب الثّقافة/ الحضارة العربيّة, بشكل عام.

- وعلى صعيد وظيفته ثانياً؛ فلا تبقى وظيفته:

-معياريّة خالصة: تتمثّل في تقويم الخطاب الإبداعيّ أو البلاغيّ (منظوما أو منثورا) وإصدار الحكم عليه بالجودة, أو الرّداءة.

-أو جماليّة خالصة: مهمّته- فقط- الكشف عن جماليّة كلّ جميل من الكلام, أو عمّا به تكون جماليّته, أو عمّا تحقّق له, أو توافر عليه من شروط الجماليّة.

-أو أن يبقى فنّاً بلا وظيفة: ومن ثمّ, بلا هويّة, بحيث يغدو نوعاً من العبث, أو ضرباً من فائض الكلام على الكلام, بل يجب أن ينفتح على متعدّد الوظائف, ليحقّق العديد من الأهداف والغايات.

-وعلى صعيد آليّات عمله ثالثاً: بحيث ينفتح على آليّات جديدة غير آليّاته القديمة السّلطويّة المتسلّطة التي ما انفكّت تكرّس المعياريّة والفردانيّة, أو الأحاديّة طوال تاريخ الحركة النّقديّة العربيّة.

وما عناه الباحث بالآليّات الجديدة-في هذه الدراسة- آليّات التّجريب التي يفترض أنّ خطابنا النقدي الحديث, قد اعتمد عليها, في إنتاج معرفته الخاصّة بالنّص, غير أنّ شيئا من ذلك لم يحدث حقيقة, في الأغلب الأعم. وهو ما وضع الباحث– في القسم الثاني من هذه الدراسة- في مواجهة الأزمة الثّانية (أزمة التّجريب النقديّ) التي لازمت خطابنا النّقديّ الحديث, وجرّت عليه مآسي وويلات, ليس بأقلّها ضياع هويّة النّقد ذاته, وغياب المفهوم الجامع له.

فقد توصل الباحث- خلال تناوله هذه الأزمة-إلى أنه- على الرغم- من شيوع مصطلح النقد, وكثرة تداوله في السوق الثقافية الاستهلاكية العربية, إلا أنه قد ماع أو كاد يتبدّد تماما في خضمّ هذه الكثرة الكاثرة من المناهج النقديّة المعاصرة التي صارت من الكثرة بحيث لم نعد قادرين على التّمييز بين منهج وآخر؛ ففي خضمّ الكثرة تتبدّد الوحدة وتتلاشى. ما حدا الباحث على إعادة طرح سؤال الماهية (على النّقد) في القسم الثّاني من البحث.

وقد حرص الباحث على تناول هذه الأزمة الأخيرة, محللا أسبابها, ومعللا حيثياتها, من خلال نماذج نقديّة مهمّة, تتصدّرها تجربة النّاقد الدّكتور عبد الله الغذامي النّقديّة, بما طرحته من أسئلة, وأثارته من جدل, لاسيّما في كتابه"النّقد الثّقافيّ".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق